من حيث المعطى الديني في الحرب بين المقاومة في غزة والعدو، هناك شواهد القرآن تتجلى بوضوح: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله...)، (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...). في الأولى لا مقارنة من حيث العدد، جيش نظامي من أقوى جيوش العالم، ومقاومة ينقصها الكثير من المال والرجال والعتاد. وفي الآية الثانية، لا اعتبار لعدم تكافؤ العدة العسكرية، إذ المعنى القرآني واضح في ذلك (ما استطعتم من قوة) أي ما هو متاح من القوة. والمقاومة تدافع بقوتها المتاحة. دخلت إسرائيل حربها بكبرياء المنتصر، شنت حربها غطرسة، فخسرت سياسيا وإعلاميا ما لم تخسره منذ عقود. ولو تخلى الغرب المنافق عن دعمها لانتهت من الوجود. صمدت غزة، لأن كل أهلها صبروا وقاوموا، فهم من يتلقى الضربات الجوية والصاروخية، ومنهم من جاع، ومنهم من خسر مدرسته ومستشفاه ومسجده، ومنهم من جرح، ومنهم من لاقى ربه. أما المقاومة فهي جزء من غزة كبرت أو صغرت، هي مكون سياسي له مصالحه، لكنه في لحظة دفاع إنساني عن وجود فلسطيني، بل عن كرامة مسختها إسرائيل بعربدتها واستقوائها بأمريكا والغرب. هذه الحرب التي لم تخترها غزة، لكنها وقد فرضت عليها، انتقلت فيها من الدفاع للهجوم التكتيكي. أرعبت إسرائيل، سكانا وعسكرا، وكلما مر يوم ازدادت فيه إسرائيل هيجانا. لم يكن لإسرائيل هدف عسكري من هذه الحملة، بل كما ذكر أحد المحللين، لا تستطيع إسرائيل أن تعيش في سلام. فمجتمعها مفكك لدرجة وجوب افتعال خصومات خارجية لتوحيد صفوفه. فحروبها ليست ردا لعدوان، بل إنها العدوان بكامله. خيارات غزة خيار واحد فقط وهو المقاومة لفك الحصار الجائر الذي حول غزة إلى أكبر سجن في العالم كما يقول جيمي كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق. هذا الهدف بحد ذاته يستحق التضحية، لأن أسوأ ما ينتظره الإنسان هو الموت البطيء، دون نجدة. هذه الحرب مختلفة عما سبقها، مختلفة لأنها بين طرفين غير متكافئين عسكريا. جيش نظامي ينتمي لجيوش ما بعد الحداثة، من حيث التقنية المتطورة لحد حسابات الهدف من غرفة عمليات تبعد عن أرض المعركة بمئات الكيلومترات. العدو يشن هجومه ليختبر أسلحته المتطورة، بينما غزة تمارس مقاومتها بطرق تقليدية وبسلاح تقليدي. لكن الجيش النظامي، جيش ما بعد الحداثة يفشل في الهيمنة رغم القتل والتدمير الذي لا مبرر له، ولا تفسير له إلا الهيجان نتيجة لعدم الوصول إلى إذعان المقاومة كما يرتجي العدو. مما جعل هذه الحرب مختلفة، أنها وقعت في زمن الطفرة المعلوماتية، أو عالم ما بعد الحداثة، حيث تتقدم الهوامش على المتون، ويصبح للناس القدرة على الفكاك من هيمنة الإعلام التقليدي الذي توجهه الدول وفق مصالحها. وسائل التواصل الحديثة كشفت عجز العدو الإسرائيلي، حيث نقلت الصورة المؤلمة لغطرسة العدو، نقلت همجية العدوان وقتل الأطفال والنساء، وهدم المساجد والمدارس والمستشفيات. ولأول مرة تتعاطف الجماهير في العالم بحجم غير مسبوق بسبب وسائل التواصل الما بعد حداثية، التويتر والفيسبوك واليوتيوب وغيرها، مما جعل العالم يرى الوجه البشع للعدو. لم تكن للعدو القدرة على السيطرة على هذا النوع من الإعلام كما اعتاد من سيطرة على الإعلام التقليدي، بل إن الإعلام التقليدي المرئي والمقروء، فشل في الخروج من أيديولوجيته وانحيازه، سواء كان هذا الإعلام عربيا أو غربيا. هذه الوسائط نقلت الحقائق من على الأرض، برهنت بالدلائل على العدوان بسيل من الصور الثابتة والمتحركة. العدو يخسر، والمقاومة تنتصر. العدو يخسر قدرته على التضليل والدعاية المضادة، وكذبة الخوف من الأنفاق لم تعد مبررا لتصديق العالم لهذا العدوان. أما المقاومة فتنتصر لأنها استطاعت، أن تورط العدو أكثر في كشف همجيته، عدو يحاصر شعبا حتى الموت دون أن يتحرك العالم. لكن انتصار غزة منقوص لا بسبب ضعف إرادة المقاومة، لكن الانتصار الصمود يجب أن يستكمل بانتصار سياسي. هناك سببان في نقص الانتصار، الأول ضعف العرب وانقسامهم وعدم قدرتهم على الخروج بصوت موحد لتصعيد الموقف دوليا، والثاني النفاق السياسي الذي يمارسه الغرب تجاه العدو الإسرائيلي. فرغم كل الحقائق من أن فلسطين هي آخر شعب في العالم تحت الاحتلال، فما زالت الدول الكبرى الداعمة للعدو تناور، وإذا قاربوا الأمر حملوا الطرفين المسؤولية مع الاعتذار للعدو عن هذه المقاربة.