* سيأتي من يتباكى على العرب وينسب ما يحدث لمؤامرات الغرب، وإن كان في ذلك شيء فأبناء الوطن العربيِّ قدَّموه لأعدائه ونفَّذوا معظم المؤامرات في أيِّ مجتمعٍ عَربِيٍّ وفي أيَّة دولةٍ عربيَّةٍ يتحرَّك النَّاسُ في مسارين متقابلين غالباً ما يتصادمان فيهما، لاختلاف السائرين في كلٍّ منهما في مطالبهم اختلافاً يمسُّ غالباً مشروعيَّتها ومشاريعهم فيهما، وتمثِّلُ دولُ الربيع العربيِّ ذلك بأحداثها وصراعاتها واضطراباتها بوضوح، فشريحة قليلةٌ يصنِّف أفرادُها أنفسهم نخبةً وطنيَّةً تحرِّك معظمهم الرغباتُ والمصالحُ والأهدافُ الخاصَّة في السلطة والثروة والوجاهة الاجتماعيَّة، دون النظر لسلامة مسارهم فيها ونحوها وتأثيرهم بها وتأثيرها على أوطانهم وحدةً وتنميةً ومصلحةً وطنيَّةً ما دامت تحقُّق لهم أهدافهم أو بعضها، وما دامتْ توصلهم لأحلامهم الخاصَّة أو بعضها، فيما يقابلها شرائحُ كبيرة وواسعة مهمَّشة سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً تحرِّك معظمهم آمالُهم بالعدالة والكرامة وبالمشاركة في خيرات أوطانهم بالعمل والعيش فيها بأمن واستقرار، صبروا كثيراً لتحقيق مطالباتٍ مشروعةٍ نادوا بها طويلاً، فهل يمكن أن تتحقَّقَ المعادلةُ الوطنيَّة بين أولئك وأولئك؟، ومَنْ مِنْ الطرفين ينبغي عليه أن يسعى إليها وأن يتنازل عن بعض أهدافه وأحلامه من أجل الوطن وحدة وأمناً واستقراراً؟!. فأينما يتلفَّت المتابعُ لدول الربيع العربيِّ يرى هذين المسارين المتقابلين، ويرى الصراعاتِ بين سائريهما، متَّخذين الدين والمذهب والطائفة والعشيرة ممرَّات نحوهما وفيهما، وتمرُّ الأعوامُ ويتبيَّن أولئك وأولئك أنَّهم افتقدوا آمالهم وأحلامهم وأحبابهم دون تحقيق بعض أهدافهم، ومع ذلك يستمرُّون ولا يتوقَّفون مع أنفسهم مراجعين لها ولا يتراجعون عمَّا تسبُّبوا به لأوطانهم من تدمير وتفكُّك، بل ويقدِّمون أوطانهم لنفوذ طامعين يدَّعون بأنَّهم سيناصرونهم لمحاربة الإرهاب الذي يخشونه على بلادهم، والإرهابُ قد وجد مداخله إلى أوطان مضطربةٍ سياسيّاً واجتماعيّاً باستعانة فريق ضدَّ آخر كما فعل بشَّار بسوريا باستعانته بداعش، وكما فعل نوري المالكي بإطلاق سجناء الإرهاب في العراق مستنصراً بهم على عربها السنَّة ابتداءً وعلى كردها انتهاءً، وكما غضَّ الطرف عن تنظيم داعش واستعان به فانقلب عليه، وكما استنصرت المليشياتُ الليبيَّة بالإرهابيِّين ضدَّ بعضها وضدَّ حكومة ليبيا، وكما تستعين المجموعات الإرهابيَّة بتونس بغيرها من إرهابيي إفريقيا وغيرهم، وهكذا تتعطَّل الحياةُ والتنمية وتهدَّم البنى التحتيَّة وتنهار المؤسَّسات دون أن تتحقَّق أهدافا وآمالاً لأولئك أو لأولئك، وتتحوَّل دولهم لدولٍ فاشلة، فيفتقد الجميعُ الأمن والاستقرار، ويفتقد الوطنُ الوحدةَ وتهدر خيراتُه على تدميره وقتل مواطنيه وتشريدهم، وينتشر الفسادُ وتفتقد النزاهةُ والعدالةُ والكرامةُ وتسفك دماءٌ بريئة وتنتهك الأعراضُ والحرمات، وتنهب مقدَّرات الأوطان ويتسلَّل إليها من لا ينتمي إليها، فحتَّى داعش تمارس ذلك باسم دولة الخلافة الإسلاميَّة والإسلام بريء من كلِّ ذلك، بل إنَّها خيَّرت مسيحيي الموصل بالإسلام أو بدفع الجزية أو بالقتل فخرجوا تاركين كنائسهم ومنازلهم، فأين تسامح الإسلام مع أهل الكتاب؟!. وكما حدث للوطن العربيِّ في الماضي يحدث الآن مثله وسيأتي من يتباكى عليه وينسب ذلك لمؤامرات الغرب، وإن كان في ذلك شيء فأبناء الوطن العربيِّ قدَّموه لأعدائه ونفَّذوا معظم المؤامرات، وهم الذين تناسوا ماضيهم وتاريخهم وعبره ودروسه، بل إنَّ أولئك لا يكتفون بما تسبَّبوا به لأوطانهم ومواطنيهم بل ويخطِّطون لزعزعة الأمن والاستقرار في دول عربيَّة مستقرَّة أو لم تصل بعد لمرحلة افتقادهما كاملين، ويحرِّضون مواطني تلك الدول وغيرهم عليها ويعملون ضدَّها ويجدون من بعض مواطنيها قبولاً ومشاركةً، فيما أولئك يرون ما يحدثُ في دول الربيع العربيِّ من صراعات واضطرابات وارتكاسات نحو الأميَّة والجهل والمرض والفقر، فيا ليتَ أولئك يصلحون أوضاعهم وأوضاع دولهم، ويا ليت المخدوعين من أبناء الدول العربيَّة المستقرَّة يستوعبون الدروس والعبر. ويتنادى العقلاء وغيرهم في تلك الدول للحوار الوطنيِّ للخروج من أزماتهم ومن اضطراباتهم وصراعاتهم، ويردِّدون ذلك دون الوصول إلى شيء، فماذا أنتج الحوارُ الوطنيُّ في اليمن؟!، وماذا فعل الحوارُ الوطنيُّ في ليبيا؟، وماذا حقَّقت المؤتمراتُ والوساطاتُ في لبنان وفي الصومال وفي السودان؟!، وإلامَ أوصلتْ المحاصصةُ في العراق وفي لبنان؟!، لا إلى شيء إلاَّ إلى إطالة أمد الصراعات والحروب وتعميق آثارها، فالنفوس البريئة تزهق، والفقراء يزدادون فقراً، والمحرومون من حقوقهم يزدادون حرماناً، والمشرَّدون واللاجئون يزدادون أعداداً، وسيعود أولئك وأولئك يطالبون بالحريَّة وبالكرامة وبوحدة أوطانهم خاصَّة، بل وسيتجاوزونها لمناداة بوحدة الأقطار العربيَّة، وستُسمع في حواراتهم وستُقرأ في كتاباتهم دعواتٌ لحريَّة التعبير وللمساواة وللعدالة وللكرامة وللديمقراطيَّة، وسيعتلي بعضُ أولئك المنابر وعَّاظاً ودعاةً باسم الدِّين ينادون بالوسطيَّة وبالاعتدال وبقبول الآخر المواطن والتعايش معه بعد أن نمت الأحقاد واستبطنت الثاراتُ وتعمَّق الاضطهادُ وتوسَّع التهميشُ وتمدَّدت الطائفيَّةُ والمذهبيَّةُ وتعزَّزت المليشيات بسلاحها وبمواقعها، وسيُلقي الجميعُ كلُّ طرفٍ بتبعات ما وصلوا إليه على الآخر ويتنصَّلون ممَّا فعلوه وما تسبَّبوا به. فيا ليت أولئك ممَّن أوصلوا أوطانهم إلى ما وصلت إليه يستقرئون سير رؤساءَ وقادةٍ في العالم النامي، تخلَّوا عن سلطاتهم من أجل أوطانهم ومواطنيهم، ففي السودان تخلَّى سوار الذهب عن السلطة وما زال يواصل العمل خدمةً لقضايا أمته العربية والإسلامية والإنسانية، فيحتفي به رسميّاً وشعبيّاً أينما حلَّ وارتحل، وقبله ضحَّى شكري القوتلي برئاسة سوريا لتحقيق وحدتها مع مصر، وتنازل سنقور السنغال ورئيسها الأديب الشاعر المعدود من أهم المفكرين الأفارقة بمحض إرادته لعبده ضيوف المسلم خلفاً له، وامتنع مانديلا جنوب إفريقيا الزعيم المتسامح مع خصومه من أجل وحدة وطنه واستقراره وتنميته وتطوره عن الترشح لولاية ثانية؛ ليصبح فيما بعد رجلاً من حكماء العالم فيكسب المهابة والتقدير من الأعداء قبل الأصدقاء فيتأثَّر العالم لفقده، وخرج عزت بقوفتش البوسني قائد ثورة الاستقلال بدولة مسلمة من رحم الشيوعية وقلعتها، ليتفرَّغ للعمل الإسلامي محاضراً ومؤلِّفاً ومشاركاً في المؤتمرات، وأسقط فاتسلا هافل الشيوعية في تيشكو سلوفاكيا ليحصل بعدها على لقب رابع أفضل مائة مفكر عالمي، وتخلَّى مهاتير محمد الرئيس الماليزي عن السلطة بعدما حوَّل بلاده لدولة صناعية متقدمة، فهؤلاء جميعهم أدوا أدواراً وطنيةً متميِّزة لأوطانهم، ثم منحوا الفرصة لغيرهم ليكملوا المسيرة وحظوا باحترام أوطانهم وشعوبهم ودول العالم وشعوبها، هذه الأسماء لهؤلاء القادة أعرفها تماماً، ولكنِّي نقلتُها من مقالة للأستاذ محمَّد العمر في صحيفة الشرق في عددها 958.