لم يرد خادم الحرمين الشريفين أن يسهب في كلمته الرصينة المحتشدة بالمضامين الكبيرة التي وجهها أمس إلى الأمتين العربية والإسلامية وإلى المجتمع الدولي؛ فأوجزت الكلمة الملكية موقف المملكة العربية السعودية من الأزمتين اللتين تمر بهما أمتنا في كلمات معبرة منتقاة ذات دلالات وإيحاءات تحتاج إلى توقف وتأمل واستيعاب ما توحي به من إشارات إلى دول أو جماعات أو تيارات أو أحزاب تخطط أو تحرك أو تقف من وراء ستار خلف كثير مما يحدث الآن من جرائم بشعة ترتكبها جماعات باسم الدين، أو ما يحدث من صمت عالمي مريب ومتخاذل تجاه ما يقترفه الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني في غزة من أعمال وحشية ستبقى وصمة عار في تاريخ الدول والمنظمات الإنسانية الصامتة المتخاذلة. وقد توجهت الكلمة أو البيان الرسمي للملكة -بأدق تعبير- في جزئها الأول إلى تجلية ما يحدث في المنطقة من فتنة تلبست رداء الدين، والمقصود هنا وإن لم ينص الخطاب على اسم جماعة معينة؛ لكنه أشار إلى أفعالها وجرائمها التي تقترفها في حق كل من لم يعلن ولاءه لها والإيمان بما تعتقده من أفكار ضالة، وشملت جرائمها من تسميهم مرتدين أي الذين لم يستجيبوا أو يذعنوا لها بإعلان البيعة للخليفة المدعى المزعوم أو قاوموا تلك الجماعة الضالة؛ فأراقت دماء الناس على اختلاف اتجاهاتهم ومللهم ودياناتهم ونحرت رقاب البشر أمام الشاشات وبثت تلك الجرائم عبر وسائل الإعلام للتخويف والترهيب وترويع البشر، ولم يسلم من أذى وإجرام من ادعت أنها أقامت دولة إسلامية تعرف بـ «داعش» المسلمون ولا النصارى ولا أصحاب الديانات والملل الأخرى كالصابئة والبشك والتركمان والأكراد وغيرهم؛ فقتلت المسلمين وشردتهم من ديارهم حتى أصبحوا بلا مأوى، وقتلت أيضاً وشردت النصارى وهدمت كنائسهم وسلبت أموالهم بما لا يتفق أبدا مع قيم الدين الإسلامي ومنهجه السمح وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في التعامل باللين والكلمة الطيبة، وما لا يتفق مع سيرة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم جميعاً، وما سطره الخليفة الثاني الراشد عمر رضي الله عنه من تعامل سمح وعادل مع نصارى الشام حين فتح بيت المقدس وحافظ على كنيسة القيامة؛ فلم يقتل نصراني؛ لأنه لم يسلم ولم يهجر ولم يسلب ماله ولم تهدم كنيسة. هكذا كانت سيرة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وهكذا هي أيضاً سيرة الفاتحين المسلمين الأوائل الذين نشروا الإسلام بعدلهم وإنصافهم وحمايتهم حقوق الناس، وبخاصة غير المسلمين، ولا تغيب عنا في هذا المقام قصة عمر -رضي الله عنه- مع واليه على مصر عمرو بن العاص حين اعتدى ابنه على أحد أبناء الأقباط فشكاه إلى عمر؛ فجمعهما لديه في المدينة مع ابنيهما ليقتص ابن القبطي من ابن عمرو، ثم قال لعمرو بن العاص «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» ولولا هذا العدل وتلك السيرة الحسنة لم يستطع المسلمون الأوائل فتح الشام ولا مصر ولا شمال إفريقيا ولا إسبانيا، ولا فارس ولا بلاد ما وراء النهر أي الهند والسند وبلاد الأفغان إلى حدود روسيا، كل ذلك تم في زمن قياسي جداً عندما ننظر إلى اتساع مساحات الفتوحات وعدد السنوات التي تكونت فيها الإمبراطورية الإسلامية!. أما ما نشاهده اليوم من أعمال وحشية يندى لها الجبين توثقها جماعة «داعش» وغيرها من الجماعات الإرهابية بالصوت والصورة وتبثها على العالم؛ من نحر للرقاب وإعدامات جماعية وانتهاك للكرامة الإنسانية، وتهجير وتشريد للناس على اختلاف انتماءاتهم وسلب ونهب لممتلكاتهم باسم الجهاد والاستشهاد في سبيل الله وطلب الدخول إلى الجنة؟! كيف يمكن أن تصل صورة الإسلام إلى العالم على النحو الذي تقدمه داعش على وسائط الإعلام؟! لن يخرج أي متابع لما تقترفه تلك الجماعات الإرهابية إلا أن الدين الذي تنتمي إليه وترفع شعاراته في أعلامها وتدعي الدفاع عن قيمه وتسعى إلى التشدد في تطبيقها لا يرعى حرمة للبشر ولا يحفظ كرامة للإنسانية ولا يصون حقوق الناس في معتقداهم وديانتهم؛ وهذا الانطباع السيئ الذي يصل إلى الناس في قارات الدنيا عن الإسلام بما ترتكبه الجماعات الباغية المنحرفة من جرائم خسارة كبرى لنا نحن المسلمين وجناية على الإسلام وحث لأعداء الإسلام كي ينالوا منه ويلصقوا فيه ما رأوه من أفعال مشينة تصورها «داعش» وكأنها مقصودة بالفعل لتشويه صورة الإسلام والمسلمين. وهذا ما عنته كلمة خادم الحرمين الشريفين حين أشار صراحة إلى الجناية الكبرى التي تقترفها الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها داعش التي تمارس النحر المصور والإعدامات الجماعية للمسلمين وغيرهم ممن تسميهم مرتدين؛ لأنهم لم يذعنوا لها، نصت الملك عبدالله على تلك التصرفات الحمقاء بقوله «إن من المعيب والعار أن هؤلاء الإرهابيين يفعلون ذلك باسم الدين فيقتلون النفس التي حرم الله قلتها، ويمثلون بها، ويتباهون بنشرها، كل ذلك باسم الدين، والدين منهم براء، فشوهوا صورة الإسلام بنقائه وصفائه وإنسانيته، وألصقوا به كل أنواع الصفات السيئة بأفعالهم، وطغيانهم، وإجرامهم، فأصبح كل من لا يعرف الإسلام على حقيقته يظن أن ما يصدر من هؤلاء الخونة يعبر عن رسالة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. ولم تغفل الكلمة عن الإيماء إلى أن داعش لم تتجبر وتتمدد وتكبر «حتى توهمت بأنه اشتد عودها، وقويت شوكتها، فأخذت تعيث في الأرض إرهاباً وفساداً، وأوغلت في الباطل «لولا أن» سهل لها المغرضون الحاقدون على أمتنا كل أمر «فالإشارة هنا واضحة جلية إلى أن «المغرضين الحاقدين» الذين يسعون إلى تفتيت المنطقة وإضعافها وإدخالها في أتون الصراعات الإقليمية والقبلية والمذهبية هم الذين أوجدوها وهيئوا لها السبل لكي تقوى شوكتها وتعيث في الأرض فسادا بعد أن توهمت أنه اشتد عودها؛ ومن أنشأها وكونها هو أيضاً قد أنشأ ما ماثلها من جماعات أدت أدواراً ثم عادت على من أنشأها بارتكاب أعمال إرهابية استهدفت مصالحه ورعاياه، وهنا تنص الكلمة على هذا المعنى بوضوح «واليوم نقول لكل الذين تخاذلوا أو يتخاذلون عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة، بأنهم سيكونون أول ضحاياه في الغد، وكأنهم بذلك لم يستفيدوا من تجربة الماضي القريب، والتي لم يسلم منها أحد». وأريد ألا تمر كلمة «من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة» دون أن نتأمل ما تدل عليه وما تمنحه من دلالات بأن وراء تكوين الجماعات الإرهابية ورعايتها من دول كبرى مصالح قد تكون مؤقتة وتنهي، أو مخططات مشبوهة، وهي تلك التي تتحدث عنها تقارير عديدة باستهداف المنطقة العربية بمخططات التقسيم والتفتيت، ولم يتحقق هذا الغرض الاستعماري الدنيء إلا بتكوين ورعاية جماعة أو حتى جماعات لإدخال المنطقة في فوضى وإشعال وقود الفتن الدينية والمذهبية التي تهيئ للانقسام والتجزيء. وهنا يناشد الملك عبدالله علماء الدين للصدع بكلمة الحق تجاه الجماعات الضالة، وأن هذه مسؤوليتهم التاريخية التي سيحاسبون عليها وأن يقفوا في وجه من يحاولون اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم بأنه دين التطرف، والكراهية، والإرهاب، وأن يقولوا كلمة الحق، وأن لا يخشوا في الحق لومة لائم. ويقف خادم الحرمين الشريفين بألم عند المحنة التي يمر بها أشقاؤنا في غزة، وما يتعرضون له من إبادة جماعية في مجازر جماعية، لم تستثن أحداً، وجرائم حرب ضد الإنسانية دون وازع إنساني أو أخلاقي؛ فيخاطب العالم الصامت ومنظمات حقوق الإنسان التي لا ترى ولا تسمع؛ وكأنها مغيبة عن الواقع المرير في فلسطين، محذراً من ولادة جيل جديد منتقم يتخذ العنف منهجا للثأر من قاتليه؛ وهنا يدخل العالم بسبب الظلم في صراع الحضارات بدل تحاورها، وصمت العالم كما هو الواقع المثير لكل الشكوك لا معنى له سوى المشاركة في آثام ما تقترفه الصهيونية من جرائم في أرض غزة. لا شك أن الأمة تمر بمحنة مؤلمة وتخوض مرحلة تاريخية صعبة عبرت عن ملامحها بإشارات ذكية مقتضبة كلمة عبدالله، وكأنها تريد بالإيجاز بدل الإطناب الخروج من هذا النفق الطويل المعتم بمواقف عملية تنجي المنطقة من شرور الإرهاب، وتنصف الشعب الفلسطيني وتحميه من جرائم الغطرسة الصهيونية. وخلاصة قراءتي لهذه الكلمة الملكية العميقة: إنها تعبير أو صرخة أو إبراء ذمة أو نداء ورجاء للأمة التي تعاني الوهن والضعف بأن تستيقظ من سباتها وتصحو على صوت الدم ولون الموت والفناء الذي يهدد المنطقة كلها تحت ادعاءات مزيفة تتوسل بالجهاد والاستشهاد لاستجلاب الشبان واستدرار عواطفهم والزج بهم في أتون الحرائق لتحقيق غايات الجماعات الإرهابية ومن يقف وراءها، والكلمة تشير إلى أن المملكة ترى أن محاربة الإرهاب مسؤولية دولية ولا تخص دولة بعينها ولا يمكن أيضا أن تنهض بهذه المهمة دولة منفردة؛ فدعت إلى إنشاء المركز الدولي لمكافحة الإرهاب قبل عشر سنوات ودعمته؛ ولكنه لم يجد الاستجابة الدولية المأمولة، ومع ذلك التخاذل الدولي غير المبرر لن تتخلى المملكة -كما أشارت الكلمة- عن دورها في الدفاع عن الإسلام وتقديمه إلى العالم بصورته الوضاءة النقية، لإلغاء ما يعلق في المخيلة الإنسانية من صور مشوهة عن الإسلام ترسمها الجماعات الإرهابية. وما لم تنهض الدول الكبرى بالمشاركة في وأد التطرف وحماية حقوق الإنسان؛ فإن ذوي الأجندات الخاصة والأطماع المشبوهة والمخططات الخفية سيجدون لهم ذرائع وأسباباً يتوسلون بها لتحقيق أغراضهم.