التصنيف ووضع الناس في فئات وطبقات قديـم قدم البشرية. كما أنه ليس عيبا في حد ذاته، فقد يكون لغرض تنظيمي، أو اجتماعي أو تعليمي. وبهذا المعنى لا يسلم مجتمـع من التصنيف. فالأمم وتكويناتها تؤكد ظاهرة التصنيف. وقد نص القرآن في قوله تعالى، (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)، وقال سبحانه (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ...). هذا بعد إنساني خارج عن نطاق المفاضلة البشرية. لكن التكوينات الطبيعية للتصنيف تستثمر أحيانا لتوظيفات ايديولوجية حادة، من هنا يبدأ مأزق ظاهرة التصنيف. التصنيف يصبح مشكلة عندما يستند إلى المعيار الأخلاقي، بمعنى الحكم على الاختلاف من منظور أخلاقي يحمل طابـع الإدانة للطـرف الآخـر. فتموضع المصنف يجعله منحازا لذاته، ينفي عنها النقص ويسقطه على من سواه. وقد أسرفت المجتمعات المعاصرة حتى صار وراء كل حرب نـزعة التصنيف الايديولوجي. ولعل أخطر التصنيفات التي تستند على خلفيات دينية، فما يفترض أن يكون الدين روحيا يتحد فيه المرء مع معبوده، لكنه يتحول إلى شغل بالآخر وطريقته في العبادة. فينفصل الإنسان عن الغاية من عبادته، إلى توجه دنيوي صرف. من هنا يكون نشوء الطوائف والمذهبيات التي يتحول الدين معها إلى وقود فتنة، بدل أن يكون رحمة للعالمين. في ثقافتنا الإسلامية بدأت ظاهرة التصنيف الايديولوجي مبكرا، ومـع تطور التجربة الإسلامية اتسعت الظاهرة، حيث شكلت عائقا أمام التمدن الإسلامي والانفتاح الثقافي. وأصبح الإقصاء، إقصاء الآخر المختلف، والاستحواذ على الحقيقة أهم مرتكزات أي طائفة. فهي أجندة معلنة تروج لخطاباتها عبر شبكة من وسائل الإعلام المختلفة بنفقات عالية. من التجارب التي لن أنساها ما حـييت، قصة ذلك الأمريكي الذي أراد أن يسلم فاختصمت عليه وحوله جماعتان من السنة والشيعة في إحدى المدن الأمريكية. كل جماعة تريده لذاتها، تريده أن يسلم على طريقتها. وكأن من شروط الإسلام أن تكون سنيا أو شيعيا. كان رد الأمريكي مؤلما إذ قال: جئت لأعتنق دينا واحدا، فإذا بي أمام أكثر من دين). الحقيقة التي لا نريـد أن نقر بها أننا نبعد عن أسس ديننا بمقدار تعصبنا. الدين سهل لمن وفقه الله، صعب لمن أراده ايديولوجيا ينافس بها في ميادين الجدل والخصومة والاستحواذ. الإسلام في جوهره رسالة تسامح بين البشر، فهو لكل من أسلم، وليس لطائفة دون أخرى. ما يؤلم أن الطائفية لا تعمل إلا بوقود متجدد، وهو شباب مقبل على الحياة يتم شحنه كراهية ضد الطوائف الأخرى قبل أن يعرف حتى مبادئ إسلامه. والنتيجة نصل إلى عنف مرفوض دينيا، يروع الآمنين ويستحل الحرمات، وللأسف باسم الدين. الدين يقيم شرائعه على العدل وحفظ حقوق الناس مسلمين وغيرهم، ولا يمكن أن يقـر الضيم والظلم واستباحة الحرمات مهما كانت الأسباب. بهذه المبادئ الموجهـة يمكن تجاوز حرب الكراهيـة، التي تعد نوعا من الإرهاب الخفي، ضد أي طائفة. من يتأمل المنظور الغربي لرسم خارطة الشرق الأوسط يدرك أن أهم مقومات المشروع الغربي في المنطقة هو اللعب على البعد الطائفي، تفتيت الكيانات السياسة الحالية إلى كيانات طائفية صغيرة يصبح لديها ما هو أكبر من الصراع على المذهب، صراع على أرض سياديـة مهما صغرت. بهذا التوجه يستطيـع الغرب الاستحواذ بفعل توظيف البعد الطائفي، والدلائل في واقعنا اليوم أبلغ من أي برهان نظري. أتعجب من دور رابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة التعاون الإسلامي. كلها تحمل الصفة الإسلامية، وهي منظمات تدل على الاجتماع، قويـة في مسمياتها، نبيلة في أهدافها. غير أن أثرها محدود، ودورها مفقود. فأين الخلل؟! هل هي مجرد كيانات شكلية، أم أنها لا تستطيع أن تفعل شيئا لأنها ولدت بمبادرات سياسية، وتوافقات ايديولويجة لم تسلم من عبث النزعات الطائفية. تصحيح ما أفسدته الطائفية ليس سهلا، لكنه ليس مستحيلا. في الطب قبل علاج المرض، يجب تشخصه والاعتراف به من قبل المريض، بعد ذلك يمكن البدء بعلاج ظاهرة الطائفية. فلا يمكن أن يكون هناك أي حل طالما أننا نرى أنفسنا على حق وغـيرنا على ضلال. halnemi@gmail.com