لم يعد وصف "العاطلات" غير طبيعي أو خارجا عن السياق الوظيفي بصورة شاذة، ذلك أن التسويف والممارسة البيروقراطية للجهات المعنية بتعيين الخريجات في مختلف التخصصات، أوجدت ما يمكن أن يكون شبيها بالغلظة الحسية بمتاعب هؤلاء، بحيث تمضي السنوات عقب التخرج ليس لتحقيق الطموحات ودخول الحياة العملية والدورة الإنتاجية للوطن، وإنما لتعمل على تآكل تلك الطموحات وتحويل الأحلام الى كوابيس، والقلق الإبداعي إلى آخر مرضي ينهش أي حوافز ذاتية للتطور وتحقيق الذات. أكرر بأنه لم يعد وصف "عاطلات" لافتا أو مثيرا للاهتمام في أجندة الخدمة المدنية أو حتى وزارة العمل؛ لأن هذه الجهات أصبحت تتعامل ـ على ما يبدو ـ مع مسائل روتينية لا تكترث بحجم المأساة التي تعيشها كل خريجة عاطلة، ولذلك فإن اللافت والمثير للاهتمام هو توصيف الوصف، بمعنى أن "العاطلات" وصف أصبح يتم وصفه بـ"القديمات" وهو حال أولئك الخريجات اللائي تجمعن مؤخرا في جدة، بعد أن قدمن من مختلف مناطق المملكة، وذلك من أجل المطالبة بتوظيفهن أسوة بغيرهن من الخريجات المعينات حديثا. وما يثير الانتباه أن كثيرا من هؤلاء الخريجات تربويات في مختلف التخصصات، كالدراسات الإسلامية واللغة العربية والرياضيات والفيزياء، والكيمياء، والمكتبات، ومنهن من اجتزن اختبارات القياس، ولنا أن نتصور أن أقدم خريجة من هؤلاء الجامعيات لها 20 سنة في انتظار وظيفة كالسراب، فيما أقلهن لها 7 سنوات، وتلك قضية مرجعيتها الإدارية والتنظيمية لدى وزارات الخدمة المدنية والتربية والتعليم والمالية والتخطيط، لأنه يفترض بنا أن هناك تخطيطا لتوظيف الموارد البشرية في المجالات المختلفة وفقا لمعطيات نسبة وتناسب، حتى لا تبدو هؤلاء الضحايا كهدر وطني في الموارد البشرية، أو فائض بشري لا حاجة له. وقوف هؤلاء الخريجات، سينتهي بهن بإذن الله إلى الحل الحاسم الذي يرضيهن ويعوضهن عن ضياع السنوات والعمر خلف الوظيفة، وامتد حبل الصبر لسبع سنوات وعشرين سنة، كان يفترض أن يتم حسم القضية ويستوعبن بصورة منظمة في دولاب العمل العام، دون الحاجة إلى كل هذا الوقت الطويل، ولكن يبدو أن هناك سوء تنظيم في مرحلة ما، وعند جهة ما، هي التي تعيق استيعاب الخريجات، واللائي ينبغي ألا يوضعن في بند الفاقد التربوي مثلهن مثل كل من لم يكمل تعليمه وخرج لأي أسباب موضوعية أو غيره من السلك التعليمي، وبالتالي فقد الوطن والمجتمع بصورة نسبية أحد المواطنين الذين يفترض أن يسهموا بصورة علمية وعملية في البناء والتنمية. السؤال الذي يبرز في حالة هؤلاء الخريجات وغيرهن كالبديلات اللاتي توقف قطار توظيفهن أيضا منذ سنوات.. هل بالفعل ليست هناك حاجة لهؤلاء الخريجات؟ وهذا السؤال يجعلنا نسترسل في مزيد من الأسئلة: إذا لم تكن هناك حاجة لهن، فلماذا تم قبولهن في كليات غير متوافقة مع احتياجات سوق العمل أصلا؟ ثم ما الحاجة إلى جامعات تخرج الآلاف سنويا ثم لا يستفاد منهم؟ وفي ظل عدم توقف استقدام العمالة الوافدة، هل لذلك تأثير في عدم توفر وظائف لهن؟ هل لا تثق تلك الوزارات المعنية بالتوظيف في الكوادر الوطنية؟ وما مصيرهن بعد خمس أو عشر أو خمس عشرة سنة؟ وهنا قصدت مسارا خمسيا بحسب تخطيطنا التنموي الذي يفترض أن تقدم فيه إحصائيات بالموارد البشرية وكيفية الاستفادة منها في بناء الوطن. هؤلاء الخريجات "العاطلات" و"القديمات" يكشفن عن خلل كبير في عملية التوظيف في القطاعين العام والخاص، ولا يمكن لبرامج وزارة العمل أن تنجح طالما تتضاعف أعداد العاطلين والباحثين عن عمل، فيما لا نسمع رأيا فصلا لوزارة الخدمة المدنية، وحين يحدث كل هذا الصمت، فإننا أمام مشكلة حقيقية لا يمكن لتجاهلها أن يكون حلا، وستواجهنا تبعاتها في المستقبل بصورة أصعب من أن يتم تداركها.