لعل من أكثر القضايا إثارة للحيرة والعجب، حالة الانفصام التي يعيشها مجتمعنا بوجه عام، فديننا يحث على التسامح واللين في التعامل وواقع الحال يقول: إن هناك من يميل إلى التشدد، كما يؤكد على أهمية الالتزام بالمواعيد والصدق بالحديث والإتقان بالعمل وبذل الجهد في خدمة المجتمع وبالرغم من كثرة وتنوع مؤسساتنا الدينية وكثافة الخطاب الديني على كافة الأصعدة الاجتماعي منها والتعليمي مقارنة بغيرنا من بلدان العالم الإسلامي، إلا أننا نجد أن المقارنة بين أحكام وتعاليم ودلالات الرسالة الإسلامية مع سلوك كثير من الأفراد بالمجتمع تطرح أكثر من سؤال وتثير أكثر من استفهام. و يرى الدكتور زيد بن علي الفضيل أن لب الإشكال راجع إلى طبيعة النسق المعرفي الذي من خلاله يتم استقبال كثير من الأوامر والنواهي الدينية، وفهم دلالاتها والتعرف على مضامينها الكلية؛ حيث يميل المجتمع بفعل التأثير الإرشادي إلى العمل وفق النسق الظاهراتي "الفومونولوجي" مع مختلف الأحكام الشرعية والتعاليم الدينية. وهذا النسق يقول عنه الفضيل: وإن كان يحقق استيفاء ملامح الشكل العام لتلك التعاليم، لكنه لا يبني قاعدة صلبة ينطلق منها المجتمع على صعيد الأفراد والمجموع؛ إذ يهتم هذا النسق باستيفاء ملامح الشكل العام للظاهرة الدينية، دون الاهتمام بواقع حيثياتها، ومدى تفهم المجتمع لها، وقبوله لمضامين تعاليمها. فمثلا يهتم أصحاب هذا المنهج بفرض التطبيقات الشكلية للتعاليم الدينية، فالإنسان لا يكتمل إيمانه وفق هذا النسق في إطار استيفائه لأركان الإسلام، إلا إذا قام بتأدية الشعيرة ضمن إطارها الظاهري الجمعي، دون النظر إلى عمق إيمانه بذلك، حيث يفرض عليه أن يؤدي الصلاة مجتمعيا في المسجد، ولو لم يقم بذلك لدخل في دائرة الشك والمساءلة، وبالتالي يحرص المرء في غالب الأحيان على أداء شعيرة الصلاة خوفا من استفهام مجتمعه، وتجده يحرص على ألا يغيب عن الحضور، منعا لتقوّل من هنا وهناك، على الرغم من أن فريضة الصلاة مخصوصة لله مثلها مثل فريضة الصيام مثلا، وبالتالي فإن الإنسان في المطلق الأعم ووفق النسق الظاهراتي يؤدي العبادة للمجتمع وليس لله، وهو ما يساهم في تفسير كثرة الفواحش التي لم تنهها وتحد منها كثرة المساجد واشتهار أفراد المجتمع بتأدية الصلاة المكتوبة في وقتها، وكثافة التعاليم الدينية على مختلف الصعد الحياتية. والحال عند الفضيل تنطبق على طبيعة النسق الظاهراتي في الحكم على الأفراد، فالرجل الصالح هو ذلك المداوم على الصلاة في المسجد، الذي يعفي لحيته، ويقصر ثوبه، دون النظر إلى حقيقة تعامله مع الناس، وأدائه لحقوق من يعول، وتأديته لواجباته ووظيفته على أكمل وجه. والأمر كذلك بالنسبة للمرأة، فالصالحة تلك التي تلبس قناعها من أعلى رأسها وتجر أذيالها، وليس مهما بعد ذلك طبيعة حالها ومدى حرصها وتقيدها بالأخلاق النبوية في التعامل مع الآخر. وواقع الحال فإن النموذجين الملتزمين بالنسق الظاهراتي للشكل الديني يكونان بمنأى عن النقد والتجريح مقارنة بذلك وتلك اللذين لم يلتزما بنسق ديني موافق لمن سبق، ولن يشفع لهما حرصهما على التقيد بقواعد الأخلاق المحمدية كما يقول الفضيل التي حصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقصر دعوته على أن يتممها كما جاء في الحديث الصحيح مؤكدا على حاجتنا للاهتمام بترسيخ قيمة العمل والتشديد على مثالية التطبيق في سلوكنا الإنساني، فالمؤمن هو الذي تتطابق أخلاقه مع قواعد دينه الحنيف، وهو المستحق للاحترام بمنأى عن واقع مظهره، والفاسق من تناقض سلوكه مع قواعد الأخلاق المحمدية وأحكام دينه الحنيف بغض النظر عن طبيعة مظهره. وفي السياق نفسه يقول الكاتب خالد الرفاعي: إنّ تباين المسلمين في التزامهم بمبادئ وقيم الدين أمر طبيعي، قد نردّه – في بعض الحالات - إلى عوامل فردية أو اجتماعية وقد يكون متصلاً بعامل واحد أو بجملة من العوامل؛ لذلك لا يمكن – حتى بمنطق الشريعة نفسها – أن نحمّل القائم بفعل التوعية الدينية مسؤوليةَ عدم التزام المتلقي بهذه القيم، وفي الحديث الصحيح: "فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان، والنبيَّ وليس معه أحد" مضيفا أن بعض المبادئ (المتصلة بحقوق الآخرين) لا يجوز أن تترك لقناعة المتلقي أو لالتزامه بمبادئ الدين من عدمه، كما لا يجوز أن تترك عرضة للإرشاد نفسه، وإنما يجب أن تكون مدعومة بمؤسسات تتولى حمايتها، وتقوم بردع كلّ من يحاول تجاوزها والإضرار بالآخرين. كما لا ينفي الرفاعي مسؤولية المفتي أو الداعية أو الخطيب أو معلم الدراسات الإسلامية، أو رجل الحسبة عن عدم اقتناع المتلقي بهذه القيم؛ ذلك بأن لوسائل الوعظ والإرشاد والاحتساب أهمية كبيرة في إقناع المتلقي وكسب تجاوبه وقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية على أهميتها وأثرها الكبير في الدعوة إلى الله، أو في صدّ الناس عنه، وذلك من مثل قوله تعالى : " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى "، وقول النبي عليه الصلاة والسلام : " يامعاذ أفتّان أنت ؟! " ويقول الرفاعي عن النشاط التوعوي الديني: إنه لا يتحمّل وحده مسؤولية هذه الظاهرة مع تأكيده على أن مراجعة هذا النشاط من الناحيتين: المضمونية والفنية ستكون واحدة من أهمّ الطرائق لمعالجتها، ذلك بأن الواقع يثبت أن جزءاً كبيراً من هذا النشاط ما زال مرتهناً لنمطية الأداء حتى في السياقات الحديثة، ومازال معبّأ بمضامين قد لا تكون لها الأهمية الكبرى في هذه المرحلة هذا بالإضافة إلى أنّه – في كثير من موادّه – لا يحفّز على طرح الأسئلة الشائكة، ولا يتصدى لمواجهتها، ولا يقدم رؤى جديدة عن أهمّ القضايا المعاصرة، وربما لا يتسع أيضاً للاختلاف حتى في المسائل الفقهية، وهذا مما أدى إلى وجود فجوة كبيرة بين المتلقي (وأغلبهم من الشباب) والمادة التي يقدمها النشاط الديني كما يقول الرفاعي، وصارت ثمة خيارات أخرى يجد فيها الشاب صورته وطبيعة الزمن الذي يعيش فيه، لا تتكئ – بصورة مباشرة – على قيم هذا الدين العظيم . فهي إذن مشكلة الفرد في هذا الزمن المنحاز للقيم المادية على حساب القيم الروحية ايضا مشكلة غياب المؤسسات التي تعزّز القيم الدينية، وتجعل منها برنامجاً عملياً وليس قولياً فحسب، وإنها - قبل هذا وبعده – مشكلة النشاط التوعوي الديني الذي لم يحسن بعد تجديد أدواته، ولا مواكبة العصر، ولا مخاطبة المتلقي باللغة التي يفهمها !.