في مساء اليوم التالي عدت إلى المعرض. زوّار أقل كانوا ينتشرون في أنحاء الصالة. الفنان بقامته الطويلة وهزاله الواضح كان يقف قرب امرأة يتحدث معها عن إحدى اللوحات، حين تلاقت عيناكما، هزَّ برأسه وكأنه يرحب بقدومك. حملتك رجلاك لتتسمر أمام اللوحة ذاتها التي لفتت نظرك بالأمس أثناء حفل الافتتاح. كنتَ متخوفاً أن يكون أحـدهم قـد أشتـرها، لكن الفنـان ما لبـث أن انسحب من وقفته مع السيدة وجاء إليك: «مساء الخير». بادرك، وأضاف بشيء من الابتسام: «اللوحة ما زالت تنتظرك». «صحيح». قلت كلمتك ولم تجد ما تضيفه. فكما في مساء الأمس، شعرت أن اللوحة تنادي عليك، وأن سراً ما فيها، لا تعرف ما هو، قد لامس قلبك. ولأنك رحت تطالع اللوحة بصمتك، نبس الفنان مبتعداً: «خُذ وقتك». كنتَ تودّ لو تكرر عليه سؤالك: هل الأزرق هو لون خلفية اللوحة، لكن تردداً لعيناً ربط لسانك. عادت إليك نظرة دهشة عينيه، وهو يؤكد لك نافياً: «اللون الرمادي». بقيت واقفاً بحيرتك. كيف لك لا تميّز بين الأزرق والرمادي؟ تبدو خلفية اللوحة غارقة بدرجة اللون الأزرق عند خط التقاء البحر بالسماء. تأكيد الفنان ليلة البارحة، وقوله: «الأزرق ليس لون سمائنا». كان واضحاً في كلماته: «ليس من سماء تشبه أخرى، لكل سماء لونٌ يخصّها». بيّنَ لك وقد شمل وجهه شيء أقرب إلى الابتسام: «يمكنك التأكد بنفسك، سماؤنا رمادية». صباح اليوم وقبل أن تركب سيارتك، رفعت رأسك تتلفت ناظراً إلى السماء، وقصدت صديقك طبيب العيون في عيادته، لتطلب منه فحص نظرك، وحين طمأنك: «درجة نظرك لم تتغير». سألته: «الألوان؟» وكما لو أنه استغرب سؤالك، أوضحت: «عمى الألوان». ضحك بصوت صداقتكما، وليطاوعك سحب مجلة بقربه، وأشار بأصبعه: «هذا اللون؟» «أحمر». «وهذا؟» «أخضر». راح ينظر إليك فقصدت بقعة زرقاء قائلاً: «أزرق». «أكيد». كنت تتمنى لو يأتي على لونٍ رمادي، لكنه أشار إليك بالنهوض عن الكرسي: «نظرك أفضل مني». ها أنتَ تقف أمام اللوحة، بخلفيتها الزرقاء. ليس من سببٍ يجعل الفنان يمزح معك. السيدة التي كانت تتحدث معه تتقدم نحوك لتقف إلى جانبك: «جميلة اللوحة». بادرتها القول، فوافقتك وهمست: «أحب اللون الرمادي». صدمتك جملتها، أردت أن تصحح لها: الأزرق، لكنها أكملت: «الرمادي يوحي وكأن السماء بامتداد لا ينتهي». بلعت لسانك. وما لبثت هي أن خطت منسحبة إلى اللوحة المجاورة. شغلك السؤال: إذا كانت اللوحة بخلفية رمادية فلماذا أراها زرقاء؟ ولكي تضع حداً لحيرتك، أخرجت تلفونك النقال واتصلت بصديقك طبيب العيون. استقبلته عند باب الصالة: «المعرض يستحق الزيارة». تجولت معه، وجئت به إلى اللوحة: «ما رأيك؟» «لا أفهم في الرسم». ردَّ عليك، فبادرته بسؤالك: «لون الخلفية؟» «الرمادي..» وكما لو أنه صفعك، خمشت الحيرة وجهك. ودفعت بحسٍ وآه: «أليست زرقاء؟» «لا». قالها قاطعة. *** لليوم الخامس تأتي إلى المعرض، الفنان يجلس وحده، يشخبط في كراسٍ أمامه، ما كلّف نفسه الوقوف للسلام عليك، بالكاد اكتفى بردِّ التحية. على خجلٍ مشيت لتقف أمام اللوحة. منذ افتتاح المعرض وأنت تأتي صباح مساء لتقف أمامها، وتسأل كل من يمرّ بقربك عن لون الخلفية لتسمع الإجابة نفسها. ولأن شيئاً في اللوحة قد مسَّ قلبك، خطوت نحو الفنان وبهدوء قلت: «سأشتريها». طالعك بنظرة منطفئة، شعرت بكلام يلوح على وجهه، فأسرعت تقول: «سحرني لون الخلفية الأزرق».