شباب سعوديون في مقتبل العمر رأيناهم في مشاهد صادمة ومأساوية في مناطق الصراعات والحروب. ما أثار في دواخل كل منا مشاعر مختلطة من حنق وغضب وحزن وحرقة لاسيما وقد تحولوا لمشاريع تفخيخية وأدوات تفجيرية في أيدي من غسل أدمغتهم. صور وأحداث مؤلمة من ضمنها قصة شاب سعودي لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وهو نموذج لحالات كثيرة مماثلة. قصة تزيد الموجعة تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي حيث تخرج قبل عام من المعهد العلمي، وفي 2014 سافر إلى العراق وانضم لداعش، وفي منتصف الشهر الماضي قتل ليغادر الحياة. هذا جانب من مظاهر العنف والصراعات الدموية التي تشهدها العراق، ويعبر عن حقيقة التطرف الديني من ناحية، وانتهازية تلك الحركات المتطرفة من ناحية أخرى. صورة نتأملها فيعتصرنا الحزن والحسرة والمؤسف أن أولئك المؤدلجين يزعمون بأن قيامهم بتلك الأفعال ما هو إلا من أجل حماية الدين، والدين منهم براء. شريعة تحث على الرحمة والإخاء والتسامح والتعايش وتحفل بالقيم الإنسانية لا يمكن لها أن تجيز هكذا أفعال وممارسات. قصص ومآسٍ نقف عندها ولا تلبث أن تتكرر الصورة بشكل أو بآخر لشباب يافعين يضعون أحزمة ناسفة حول أجسادهم، قاصدين مكاناً لقتل أبرياء، ولذا لا تستغرب وقد حدث فعلاً أن منهم من ينتمي لداعش قاتل من أبناء جلدته الذين ينتمون لجبهة النصرة؟ ولكن ما الذي أوصل البعض من أبنائنا لهذا الحال وهذا المستوى من التفكير؟ وما الذي يجعلهم يعشقون الموت ويكرهون الحياة؟ سؤال مشروع وحارق في آن واحد! في أبجديات الفلسفة تخبرك أن الخيط الأول لفهم أبعاد سلوك ما، هو معرفة طبيعة الفكر الذي أنتجه. هناك مخيلات وأفكار وتصورات تتشكل في العقل البشري وتتبلور جزئياتها لتتجسد على هيئة فعل ممارس على الأرض. العقل هو من يقود تلك المرحلة ولكنه يخضع بطبيعة الحال للأيديولوجيا التي تعشش في قاعه فتسيره أينما أرادت كونها هيمنت على مصدر قراراته. بعبارة أخرى عندما يختطف العقل من تيارات متطرفة فإن المحصلة تكون سلوكيات مرفوضة ومقززة، تتعارض مع الشرائع السماوية والفطرة الإنسانية. مع أن العقل عادة ما يعمد إلى ترشيد السلوك وفلترة النزعات الانفعالية، إلا أن ما يحدث مع تلك النماذج هو هيمنة اللذة المؤدلجة على قدرة العقل، وبالتالي السيطرة عليه وقيادته، فيتشكل الإحساس على هيئة سلوك، والذي غالباً ما يكون عنفياً ودموياً. غير أن انضمام السعوديين لتلك الجماعات قد لا يكون مستغرباً لمن تمت أدلجته ولكنه دليل على أنهم مستهدفون. وفي هذا السياق أذكر أنه قبل سبع سنوات، وكنت وقتها متحدثاً رسمياً لهيئة حقوق الإنسان، ان هيئة حقوق الإنسان أرسلت وفداً للبنان للاطلاع على أحوال السعوديين المعتقلين على اثر أحداث نهر البارد، وقد تبين أن أغلبهم من صغار السن، غُرر بهم عن طريق جماعات ومنظمات استدرجتهم، وأنهم قد بيعوا لجماعة في لبنان بقيمة 3 آلاف دولار للفرد الواحد. ويبدو أن المشهد يكرر نفسه في وقتنا الراهن، فثمة عقليات تنجرف مع هكذا فكر والذي له جذور تاريخية. هذه العقلية تعاني أزمة فكرية وتعيش ذهنية القرون الوسطى وتمارس سلوكاً واضحاً يتمثل في رفض القبول بالواقع وأنها تملك الوصاية، وبالتالي التلذذ بحلم الخلافة النوستالجي. ويبدو أن هذا هو مختصر قصة حركات التطرف والتشدد الديني. وفي خطاب داعش ما يكفي، فعندما تقوم بتفكيكه تجده متشدداً في مضامينه ولا يمت للإسلام ومعانيه السمحاء بصلة، ما يكشف الانتقائية وتوظيف النص لدى هذه الجماعات. رغم أن الإسلام المعتدل الوسطي واجه خلال تاريخه تحديات فكرية وثقافية، واستطاع أن يظل قوياً، وأن يؤصل فكره وأن ينفتح، ليكرس عالمية الإسلام وصوره الشمولية. أما مسألة الجهاد فعلماؤنا الأجلاء سبق وأن بينوا هذا الأمر وشروطه ولعل أهمها أنه لا يتحقق إلا بإذن ولي الأمر، بل إن هناك شبهة تحريم لأن أبناءنا يُستغلون في تلك الصراعات كما حدث بعد انهيار طالبان وكذلك في النهر البارد ومع القاعدة وداعش وجبهة النصرة في العراق وسورية عندما تحول شبابنا لسلع تباع وتشترى وبالتالي توريطهم في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل. كما انه من المؤلم أن تجد من يروج للعنف، وقد أثير موضوع التحريض ودور بعض الدعاة في دفع شبابنا للذهاب إلى مناطق قتال ومعارك بالوكالة لتنتهي حياتهم هناك بشكل مأساوي، ليتم إحراج المملكة سياسياً وتشويه سمعة شعبها، ولذلك لا بد من مواجهة تلك الأيديولوجيا المتطرفة بأسلوب نقدي معرفي، وليس باجترار مقولات دفاعية وتبريرية، فثقافة التطرف قد تموت شكلًا ولكنها تبقى مضموناً، وسقوط معتنق الفكر لا يعني انتهاء الفكر ذاته، كون هذا الفكر لا يواجه إلا بفكر مضاد، ولعل العلماء المستنيرين المختصين في السياسة الشرعية وفقه الواقع هم القادرون على تفكيك تلك الطروحات المتشددة وبالتالي مواجهتها وفضحها. صفوة القول: صحيح ان الجماعات التكفيرية كالقاعدة وداعش وجبهة النصرة قد تنطلق من حاضن فكري واحد كزعمها امتلاكها الوصاية والحقيقة المطلقة، إلا ان ما يجمع بينها هو استهدافها الشباب وتجنيدهم من أجل القيام بعمليات إرهابية لأجندة سياسية خالصة.