تساور البعض في ليبيا «أوهام» بتدخل دولي يرجح كفة طرف على الآخر في الصراع الدائر على السلطة منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011. وفي هذا الاطار، لا بد من التأكيد على ان قرار التدخل الذي اتخذه مجلس الامن آنذاك لحماية المدنيين، وأُرفق بتفسيرات مطاطة لشن ضربات جوية تسهل الحسم ضد قوات القذافي، أتى في ظل معطيات ثلاثة اساسية: أولها، ان النظام كان بحكم المنهار نتيجة سقوط خاصرتيه الشرقية والغربية في تونس ومصر، اضافة الى توافر ارادة دولية لنصرة شعب بدا موحداً في تصميمه على بناء دولة عادلة وديموقراطية، ما أكسبه تعاطفاً عالمياً، تغلّب على شبكة المصالح التي كان القذافي قد نسجها. اليوم، ينظر العالم الى الصراع في ليبيا على انه بين اطراف يدّعي كل منها الشرعية، او بالاحرى بين طرفين أساسيين: تحالف «فضفاض» للاسلاميين من جهة، يقابله، تحالف «تناقضات» بين تيارات فيديرالية - قبائلية وانفصالية و «نيوليبيريالية» ورموز منظومة النظام السابق التي كانت منغمسة في مشروع التوريث لسيف الاسلام القذافي. ولا تجد هذه الاطراف حرجاً في الرهان على نعرات تاريخية وعصبيات مناطقية وقبلية لتأجيج الصراع، املاً في الاستفادة من نتيجته. والمشكلة ان الدعوات الى حوار لمعالجة الازمة، ترقى الى «رومانسية - طوباوية»، ذلك ان الاطراف الانتهازية، اذا اتفقت، فسيكون ذلك على حساب مصلحة الشعب واذا اختلفت فإن خلافها يدفع ثمنه الشعب!... كلها تمتلك السلاح وتتملكها الرغبة في تصفية الآخر، وهي تتحرك في دوائر مصلحية ضيقة، تحاول الاستفادة من ارتباطات خارجية، بغرض الاستحواذ على السلطة وثروات البلاد. وليس الغرب بغافل عن هذا الواقع، بل ثمة قناعة دولية بأن أحداً لا يمتلك الشرعية ولا الارادة الطيبة مهما تغنى بها، ومهما حاول اقحام نفسه شريكاً في الحرب على «القوى التكفيرية الظلامية»، في محاولة لاستدرار العطف واستجلاب الدعم، بغرض الاستقواء. ولعل كثيرين لم ينتبهوا الى اشارة في خطاب الرئيس التونسي المنصف المرزوقي خلال افتتاحه مؤتمر «دول الجوار الليبي» الاسبوع الماضي، اذ قال ان «كل المحاولات لمحاربة المجموعات المتطرفة في ليبيا من خلال أجهزة خارج المؤسسات الشرعية، لم تؤدّ إلا الى زيادة تعقيد الأمور بخلق مزيد من الاحتقان وانفلات الوضع الأمني»، وفي هذا تلميح الى فصيل «الجيش الوطني» بقيادة خليفة حفتر. ولا شك في ان لوجهة النظر التونسية انعكاسات على جهود «اللجنة الامنية» (لمكافحة الارهاب) التي انبثقت عن المؤتمر وأُسندت رئاستها الى الجزائر التي يتعين عليها ان تعمل بالتنسيق مع الجانب التونسي. ومعلوم ان اهتمام الجزائريين ينحصر في تأمين حدودهم مع ليبيا، لا الانخراط في صراعاتها. كذلك أُسندت الى مصر رئاسة «لجنة سياسية» لإطلاق حوار بين الاطراف الليبية، ما يستدعي حتماً استبعاد تيار الاسلام السياسي منه، ويفقد مغزاه. واذا كان لا بد من حل أمني يقوم على تشكيل قوة من مختلف المناطق الليبية يقودها ضباط حياديون لحماية المرافق العامة، فإن الحل الأمثل لإطلاق حوار بين الليبيين هو استبعاد الاطراف المتحاربة منه، ليقتصر على اعضاء البرلمان المنتخب حديثاً، مع اشراك كفاءات تمثل مختلف شرائح الشعب، من أطباء وحقوقيين ومهندسين ومثقفين وعمال وشبان وشابات من المجتمع المدني، وذلك بغية اعادة تشكيل نخبة قادرة على اقتراح «تصورات لبناء الدولة»، تُرفع الى الهيئة التأسيسية (المنتخبة) لصوغ الدستور، لتتولى غربلتها واعتماد ما يصلح منها. ان استمرار الصراع بين الاطراف المتناحرة يهدد «مشروع الدولة»، لكن اقتصار الحوار عليها، قد يهدد «مشروع الوطن» ككل.