×
محافظة القصيم

بعد قرار الأمير فيصل بن بندر منع تخزين الأتربة داخل الأحياء رئيس بلدي الرس يشكر أمير منطقة القصيم

صورة الخبر

هي الأحياء التي تقف شاهد عيان على ما جرى في مصر خلال عقود ثلاثة مضت! عماراتها السكنية دليل دامغ على اختراق سهام التلوث البصري وتمكّن سقم اللغو المعماري من مصر الحديثة. محلاتها ومقاهيها حجة وبرهان على تمكّن العشوائية التجارية واللخبطة الترفيهية من مفاصل الطبقة المتوسطة. شوارعها العريضة المكسرة وأرصفتها التي اختفت معالمها تحت وطأة سيارات اعتلتها وأكشاك احتلتها ومقاه غزتها وأسوار عازلة ارتكزت إليها تنضح بغلبة شريعة الغاب على دولة القانون. سياراتها الفارهة المتاخمة للعربات الكارو والمجاورة لـ «تكاتك» العشوائيات والمتوائمة والدراجات النارية المسروقة أو غير المرخصة تتحدث عن أحياء الطبقة المتوسطة التي يتنازع عليها اليوم طرفا الصراع: الإخوان ومعارضوهم من شرائح الشعب المصري! حيّا مدينة نصر -الذي ابتُلي باعتصام «رابعة»- و «المهندسين» -الذي تُبذل جهود عاتية لابتلائه باعتصام جديد- يسطّران هذه الأيام سطوراً في كتاب التاريخ عن فكر الجماعة وجهود أنصارها ورد فعل المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة الذين يسكنون هذين الحيين، وهي السطور التي لا تؤرخ فقط للمشهد السياسي الاجتماعي الراهن، لكنها تكشف الكثير عما ألمّ بمصر اجتماعياً وثقافياً على مدى سنوات. السنوات الخمسون الماضية التي شهدت ولادة ونمو وتوحّش مدينة نصر والمهندسين وتحولهما من أماكن سكنية لأبناء الطبقة المتوسطة صمام أمان المجتمع إلى حلبات صراع لمكونات هذه الطبقة التي يتنازعها «الأفندية» الذين يمثلون تياراً مصرياً متعلماً على درجة من الثقافة يحلم بمصر مدنية تبلور أحلاماً مستقبلية أفضل للأبناء وتترجم آمالاً آنية لحياة بتعليم وصحة وترفيه مكلل بفهم وسطي للدين الذي سخّره الله لخدمة الإنسان لا للتضييق عليه، وتيار آخر يهيمن عليه من يُطلق عليهم «الإسلامجية»، وهو تيار متعلّم أيضاً على درجة من الثقافة الدينية يحلم بمصر إسلامية تبلور أحلاماً مستقبلية أفضل للأبناء وتترجم آمالاً آنية لحياة يومية فيها بنيان تعليمي إسلامي ونظام صحي قائم على جهود الجمعية الشرعية وأنصار السنّة ووظيفة مضمونة وترفيه يفصل بين الجنسين وجرعة ثقافية لا تخرج عن إطار حلقات دروس الدين والفقه وربما بعض من الأهازيج الدينية والأناشيد الإسلامية التي تلتزم تعاليم الدين كما سنّها هذا الشيخ أو ذاك الداعية بغية التضييق على الإنسان خوفاً من وقوعه في كمائن الشياطين أو براثن العلمانيين. ولأن العلمانيين -وفي أقوال أخرى المواطنين العاديين غير الخالطين للدين والسياسة- لا يلجأون عادة إلى الكفاح المسلح، ولا يعتنقون التكفير، ولا يؤمنون بالعنف حتى وإن كان معضداً بحجج الجهاد في سبيل الله أو الكفاح لنصرة الدين أو الغاية المبررة لتحقيق الشرعية ودعم الشريعة، فقد وقع اختيار أنصار «الشرعية والشريعة» من أتباع جماعة «الإخوان المسلمين» على أحيائهم لتكون نقاط الانطلاق لفعاليات «الحسم» و «العزم» و «عودة مرسي» و «نصرة الشرعية» و «حماية الثورة»، في أقوال أخرى فعاليات «النفس الأخير»، فالغالبية العظمى من سكان هذه الأحياء من أبناء الطبقة المتوسطة لا ينتهجون العنف، سواء كان مبرراً بفتاوى الجهاد أو مزوداً بهتافات الشرعية أو مكللاً بمحاربة الانقلابيين. وهذا يعني أن الاعتصام في جنبات الحي، وتنظيم المسيرات في جنباته، وعمل التظاهرات في ميادينه، لن تقابل إلا بإغلاق النوافذ وتأمين المداخل ومنع خروج الأبناء لحين فض الاعتصام أو انتهاء المسيرة أو زوال التظاهرة. تظاهرات أنصار الجماعة «الأسبوعية»، وأحياناً في منتصف الأسبوع، التي تُعتبر نقطتا انطلاق مدينة نصر والمهندسين من أهمها وأكثرها وقعاً، تُلقي في كل مرة الكثير من الضوء على ماذا جرى في مصر خلال السنوات الماضية. الدكتور محمد يسكن في مدينة نصر منذ ما يقرب من ربع قرن. يقول إنه بات يصطحب زوجته وأولاده لتبيت الأسرة لدى حماه في حي العباسية كل خميس على أن يعود بعد انتهاء فعاليات «الشرعية والشريعة». يضيف: «في كل أسبوع نضع أيادينا على قلوبنا خوفاً من أن نعود لنجدهم قد اعتصموا تحت البيت، فهم يعلمون أن غالبية سكان المنطقة لن يرفعوا مطواة أو يفجّروا زجاجة مولوتوف دفاعاً عن منطقتهم، وذلك على العكس من أهل العباسية الذين يدأبون على الدفاع عن منطقتهم بالقوة كلّما مر الإخوان من هناك». وعلى رغم أنه كلما مر «الإخوان» من شارع أو ميدان إلا وتسببوا في تحويله حلبة صراع، إلا أن الصراع الحقيقي هو ذاك الذي خلّفه المشهد السياسي في مصر. فجار الدكتور محمد يشارك وأسرته بصفة مستمرة في فعاليات الجماعة، وكان من روّاد اعتصام «رابعة». ومنذ عودته من «الخليج» حيث عمل لمدة 20 عاماً، وهو يرتبط بعلاقة جيرة وأخوة معه، إلا أن بزوغ نجم الجماعة ثم عزل الدكتور محمد مرسي وانقسام ميادين مصر بين «متوضئين» و «منقلبين»، أدت كلها إلى قطيعة بين الأسرتين. الأسرتان الممثلتان لطبقة مصر المتوسطة المتجاورتان في السكن والمتقاربتان في المستوى الاقتصادي والمتناقضتان في الثقافة والميل السياسي والهوى الديني تختزلان صراعاً على الهوية المصرية هذه الأيام. الأولى متمسكة بمصر التي كانت مدنية حديثة متديّنة القلب متذوقة للموسيقى متابعة للسينما ممسكة بتلابيب مصر البهية ذات الهوية المتفردة، والثانية متمسكة بمصر التي أصبحت دينية تاريخية متدينة المظهر متذوّقة لخطب مشايخ الزوايا متابعة لكتابات من يوصفون بـ «دعاة الفتنة» وممسكة بتلابيب مصر الإسلامية ذات الهوية الدينية. الهوية السكينة التجارية المرتبطة بحي المهندسين والذي يحلم أنصار «الشرعية والشريعة» بالاعتصام في أشهر ميادينه (ميدان مسجد مصطفى محمود) بغية استنساخ اعتصام «رابعة» هي ذاتها هوية مدينة نصر حيث يتجاور طرفا نقيض الطبقة المتوسطة. وحتى لو لم ينجح أنصار الشرعية والشريعة في الإطباق على هذا الميدان أو ذاك، فإن مسيرات الجماعة هنا وتظاهرات «الإخوان» هناك تمثّل ديكوراً مواتياً للبث التلفزيوني حيث نافذة «مليونية الإخوان في مدينة نصر الآن» و «مسيرات أنصار الرئيس في المهندسين الآن». فلا سكان المنطقة من الرجال سيسبونهم إلا في سرهم، ولا النساء سيدعون عليهم من الشرفات، ولا الصبية سيقذفونهم بالطوب، بل سينتظر الجميع رحيلهم ليتنفسوا الصعداء انتظاراً لإعادة صياغة لتركيبة الطبقة المتوسطة التي تشهد صراعاً بين طرفيها من «الأفندية» و «الإسلامجية».