مشكلة هي تلك الأواني الزجاجية والمباني الزجاجية، لأنها لا تحمل تلك الهشاشة التي تأكل التراث. والقهوة هي مشروب العرب الأول، فهم من ابتدع "شربها وسلطانها"، الدلة كانت ومازالت من علامات المجلس العربي، وهي تصنع قديما من معدن "الرسلان"، وهو أغلى أنواع النحاس تقريبا، ولها أشكال متعددة متفاوتة الأحجام، ولقد كان العرب يستخدمون "الدلال" كبيرة الحجم لملئها بالقهوة، و"دلال" للمياه الساخنة وتستخدم لغلي القهوة، وهناك "الدلة" للتبهير "وهو إضافة الهيل" أو الحب هال إلى القهوة استعداداً لصبها للضيوف. و"دلال" الغلي تظل بجوار النار باستمرار طيلة اليوم والليل كما أنها جرت العادة بألا تطفأ النار، فعندما تذكر مساوئ الرجل يقال إنه "طافي نار"، أو نار مجلسه رماد! كناية عن عدم استمرار شعلة النار بمدلولها الواضح عن الرجل المضياف والمنزل العامر، والدلة رمز وتراث تزيحها عن عالمنا "الترامس الصينية"، فصرنا بلا نار ولا شعار! ففي "الدلة" يقول الشاعر: (الدلة اللي غيثها بالفناجيل تشوقني شوق الظنين لظنينه فنجانها لا ساق وبهارها الهيل شرَّابها يعزم عزوم "ن" ضمينه) فالقهوة هي المشروب المقدّم والمفضّل في أمور الضيافة، وخصوصاً القهوة الممزوجة بالهيل، وكثرة الهيل دليل الكرم.. ويتبعها درجة مغلى [الزعفران] أو مغلى [الليمون] أو [القرفة] أو شيء من [الحليب] المسكّر بالزنجبيل.. فعادة شرب [الشاي] جاءت متأخرة، إذ كان العرب لا يعرفون من أمور الشاي شيئاً.. وتصب القهوة بضع قطرات، وتقدّم عدّة مرات، تكرّر إلى أن يهز الضيف يده، إعلاناً بالاكتفاء من شرب القهوة. وهي إحدى معدات الضيافة الثلاث، خاصة عند استقبال وتوديع الضيف.. وهي [العود أي البخور والعطر والقهوة]. وتجري العادة أن يصب الفنجان الأول لصاحب البيت.. وإذا كان هناك خادم يقوم بعملية الصّب، فعليه أن يتناول هو الفنجان الأوّل، وذلك إيذاناً بافتتاح جلسة القهوة.. وأيضاً تأكيداً منه أن القهوة لا عيب فيها من حرق أو نقص في حب "الهال" أو الزعفران.. كما أن هذه العادة ترجع إلى عوائد قديمة، وهي [عوائد الاغتيال] حيث تتم عملية الاغتيال، بوضع السُّم للضيف في القهوة.. ولذلك فالمضيف يشرب أولاً حتى يطمئن الضيف.. فالعربي معروف باحترام الضيف ومراعاته وحمايته والدفاع عنه.. فيتم تناول القهوة أولاً قبل الضيف.. على العكس في بعض العادات والتقاليد الأخرى.. حيث يتم مناولة الضيف أولاً ثم المضيف. وللقهوة مفاهيم عديدة وغريبة يعرفها العرب، فالحروب تندلع بسكب القهوة على الأرض ويعم السلام بشرب فنجان القهوة؛ كما أن شيخ القبيلة ينثر الفنجان على الأرض حينما يسمع بموت شيخ من الشيوخ أو أي إنسان عزيز على قلبه، وتطفأ النار وتنكس الدلال لإعلان أيام الحزن، وتظل الدلال منكسة والنار مطفأة طيلة أيام حزنه! وكأنه تنكيس الأعلام في علوم الدبلوماسية العالمية، إذًا اتخذت الدلة وقهوتها دلالة العلم لدى الدول المعاصرة. وللقهوة أعراف لا يتخطاها الصغير أو الكبير، وإن تخطاها أحد كان وبالا على من يتخطى العرف والمفهوم، ومنها: - أن يقدم الفنجان باليد اليسرى والدلة في اليد اليمنى، فإذا قدم الصباب الفنجان للضيف باليد اليسرى كان ذلك علامة على الاستهزاء به واحتقاره، "وكان لشربها عمل رسمي لا يجوز التهاون فيه". - أن يقدمها وهو واقف. وللقهوة أربعة فناجين: - فنجان الهيف: وهو أول فنجان يخرج عنق الدلة يتناوله المضيف لكي يطمئن الضيف أنه لا سمّ فيه. - فنجان الضيف: يصب الفنجان للضيف ليشربه على اعتبار أنه ضيافة كما أنه بمثابة العيش والملح (الممالحة). - فنجان الكيف: وهو تكرار فنجان آخر لتعديل مزاجه. - فنجان السيف: وهذا هو بمثابة عقد اتفاق غير مبرم بين الضيف والمضيف بأن يذود عنه ويتحالف معه. وقد يقدم فنجان السيف لعدد من الشيوخ لعقد التحالف، وللضيف الخيار في قبول فنجان السيف من عدمه. - أن يقدم الفنجان الأول لشيخ القبيلة، وإذا لم يكن موجودا فالفرسان أو أعلى منزلة أو أكبر سنا ثم يليه من بعده في التراتب الاجتماعي. إذا كان بالمجلس ثلاثة شيوخ كان لزاما على المضيف أن يحضر ثلاثة تصب القهوة في الوقت نفسه، ولذاك فقانون القهوة ينص على أن "القهوة خص نص، والشاي قص، قص "أي أن تقديم القهوة اختيار وتقديم الشاي قص، أي يبدأ من اليمين إلى الشمال دون تلك المراعاة. وللقهوة طقوس ورموز! أما عن رش العطر وحرق العود لاستقبال ثم لتوديع الضيف، إذ لا يجب المكوث بعدها، فالمثل الشائع هناك يقول: "ما بعد العود قعود"، ويقول حافظ وهبة في كتابه -جزيرة العرب في القرن العشرين: "إن اسم المرش الخاص بالعطر [قُمقُم]، وهي كلمة تركية أو فارسية، وهي تعني إشارة للضيف، أي قُم ولا تجلس". ولذلك نجد أن المضيف، يؤخر حرق البخور، ورش العطر.. حتى يهم الضيف بالانصراف من قبل نفسه، بينما يحرص على إشعال البخور فور حضور الضيف، وهي لغة غير مبرمة يفهمها الجميع، فإن أراد انصرافه أشعل البخور، فينصرف الحاضرون. المدول هو أحد أفراد القبيلة يختارونه ليقوم بعملية الجدولة. جدولة الضيافة أي أنه يحفظ دور كل فرد من أفراد القبيلة في استضافة أي زائر أو غريب يفد مع هذه القبيلة. وكما أسلفنا فالقهوة تلعب دورا كبيرا في حياة العربي الأصيل ولها قوانينها ودساتيرها غير المكتوبة. "وكان شربها عملا رسميا لا يجوز التهاون فيه". فالعربي عندما يعلن الحرب يدفق القهوة على الأرض كما أسلفنا، وإن أراد السلام يشربها، فماذا عن القهوة العربية اليوم التي لم يبق منها سوى "دلال" من زجاج هش كمفهومها!