في نفس الوقت الذي سرد أحد الوعاظ حكاية الجني عاشق الرز الذي لايخبر الواعظ عن لذة طعامه فقط بل يمرر لها أخبارا ذات حمولة عنصرية ونفس جاهلي، صدرت موسوعة (ملحمة التطور البشري) ل(د.سعد الصويان) وهي موسوعة ثرية في الأنثربولوجيا أتت ثمرة لجهد وأبحاث سنوات طوال في حضرة ومختبرات السيد العلم نال عنها المؤلف جائزة مرموقة يقع مشهد الواعظ مُآكل وملاعب الجن وكتاب ملحمة التطور البشري على طرفي نقيض من ساحة واسعة تحتدم فيها التيارات والأفكار والصراع في حرب لم تحسم بعد هو نزال قديم لم يتوقف ولن ..... صراع العقل والخرافة، المواجهة بين نتائج المختبر وأساطير الأولين، حرب شهود العيان والمكتفين بالعنعنة في عصرنا جزء من العالم قد حسم أمره وأسلم قياده إلى السيد العقل، ونصبت موازينه الضابطة في ساحات المدن بحيث أصبحت الأرض تدور حول الشمس منذ أن قالها خلسة جالليليو خشية سطوة الكنيسة.. لكن في مواضع أخرى مازال هذا الصراع في أوجه. مازال عالمنا العربي نموذجا كبيرا لمسجد البصرة في القرن الثالث الهجري عندما اعتزل فيه شيخ المعتزلة (واصل بن عطاء) سدنة النقل ومعطلي التفكير، وقبع إلى جوار أحد أعمدة المسجد رافضا أن يكون أمامه سوى عقله، ومن وقتها ظل النشاط الفكري في غالبه يدور في هذا المضمار وصريع هذا التجاذب ولم تحسم أموره ولكن يبدو أن الغلبة فيها مابرحت لمآكلي الجن، بدليل أن موسوعة (ملحمة التطور البشري) لم تنج من الرقابة، وبدليل أن رقابة المطبوعات مابرحت تمارس لاعقلانيتها عندما لم تفسح الموسوعة، بينما هو(=الكتاب) موجود من الغلاف للغلاف على موقع د. الصويان. العقل والنقل هما حقلان معرفيان مختلفان من الممكن أن يتجاورا ولكن من المستحيل أن يتعايشا، حقل النقل وأنا وجدنا أباءنا وسطوة الارستقراطية الفكرية، بينما الحقل الآخر أعترف بفضيلة السؤال والشك وهرع إلى الملاحظة والتجربة وورث بالعقل وأسلم له المقود. وفتح عالمه على آفاق لامحدودة من العلوم والمعارف التي قد لاتكون وجدت حلولا نهائية لكل شر ولكن جعلت حياة الانسان أقل قسوة وأكثر اقترابا من حلم العدالة حقلان معرفيان مختلفان وكل منهما له قوانينه وشروطه، وكان من الممكن أن يتعايشا، ويعمل كل في حقله محترما حقوق الجيرة، ولكن ارستقراطية النقل ترفض الحقيقة النسبية المزدوجة، كما هي الحقيقة لدى ابن رشد ومدرسته التي طورها طلاب السوربون فبات اسمها (الرشدية اللاتينية) وهي الأم الروحية لعصر التنوير، وهي أيضا التي واربت الباب لأجنحة العقل ليحلق عاليا بعيدا عن وصايا الكنيس وليسير متبخترا بنجاحاته بعد أن قدم للبشرية كثير من الحلول لعذاباتها المزمنة. يقول الفيلسوف داريوش شايغان: في العالم القديم تجذرت لدينا قوانين العسف والطمس والاستحواذ، وكهنة المعرفة لن يتنازلوا عن حقولهم بسهولة، فالمعرفة قوة وسطوة ومن المستحيل أن يتعايش الحقلان بتسامح لأن هذا يهدد سطوتهم ونجوميتهم وسيطرتهم على رؤوس البسطاء والعامة.