مع حلول شهر رمضان الكريم يتفاعل جميع المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة مع أداء فروض الطاعة من الامتناع عن المفطرات والتوجه إلى العبادة والدعاء وأداء الفرائض والسنن، والاهتمام برعاية الفقراء والمحتاجين وقضاء حوائجهم. ومع أن كثيراً من المسلمين يحولون هذا الشهر الفضيل إلى موسم للتلذذ بالمأكولات وقضاء معظم الأوقات في متابعة الدراما والمسلسلات التليفزيونية، إلا أن هذا الشهر الكريم يمتاز بأجواء روحانية واجتماعية ليس لها مثيل في بقية الشهور. ومع توفر كل هذه الأجواء الإيجابية والكم الهائل من التوجيهات الأخلاقية والدينية الداعية إلى الفضائل وحسن التعامل، إلا أنها مع الأسف لا تغير من واقع الحال شيئاً. فالصراعات بين مختلف الجماعات على أشدها، لا يُراعى فيها أي مبدأ، والصدامات المسلحة تزداد كل يوم ويسقط نتيجة لها مئات بل آلاف من أبناء المسلمين، وبعض السلطات تستأسد على مواطنيها بمختلف أساليب القمع، والنخب الدينية والثقافية تعزز خطاب الحقد والكراهية. هناك تعارض وتناقض كبير بين ما تقتضيه سلوكيات وأخلاقيات الإنسان الصائم وبين ما يمارَس على أرض الواقع من أعمال وأقوال يكون مؤداها إضراراً بالإنسان. فإذا كان الصوم في هذا الشهر المبارك يهدف إلى تربية النفس وترويضها وإلى معايشة وملامسة هموم الفئات الضعيفة في المجتمع والتعود على الإحسان والتجاوز عن الإساءة، فلماذا لا ينعكس ذلك على السلوك اليومي للأفراد والجماعات؟ ولماذا لا يتحول شهر رمضان إلى موسم بناء بدلاً من الهدم، وفترة سلام بدلاً من الحروب، ومحبة عوضاً عن الكراهية، ووحدة بعيداً عن الفرقة، وتسامح بلا حقد. مفهوم الصيام بحاجة إلى أن يتوسع لئلا يقتصر فقط على الامتناع عن المفطرات المادية فقط، بل ومن أجل أن يكون موسماً أخلاقياً فإنه ينبغي الصيام عن الكذب والحقد والنزاعات والحروب والعداوات والانتقاص من الآخرين أو ازدرائهم. ليكن هذا الشهر الفضيل منطلقاً لتكريس جميع المناقبيات وتأكيد القيم الأخلاقية الفاضلة. في هذا الشهر الفضيل يمكن أن تنسج علاقات إيجابية تقوم على الاحترام المتبادل بين مختلف الأفراد والجماعات، وأن يساهم كل فرد في لجم شيطانه العنصري والأناني، ويكون له دور إيجابي في تعزيز التسامح والتفاهم والابتعاد عن كل ما يثير الأحقاد والعصبيات. ما أحوجنا في هذا الشهر الكريم إلى مبادرات على مختلف المستويات تهدف إلى التقريب بين الناس، والتخفيف من آثار النزاعات المسلحة وغير المسلحة، ومعالجة الأضرار المادية والنفسية التي تلحق بالضحايا الأبرياء وبالأخص الضعفاء منهم. إنها مسؤولية فردية وجماعية في ذات الوقت، وهي تحقق أهم أهداف الصيام. من المهم أن تتولد مبادرات كتشكيل وفود رسمية وأهلية للاجتماع مع الجماعات المتصارعة في مختلف المناطق، وقيام وساطات تعزز الحوار النقدي الداخلي في كل بلد، وأن تتعدد لقاءات النخب والفئات المختلفة لتطوير حوار بنَّاء بينها يقوم على الاحترام.