الخطب والوصايا من فنون النثر الأدبي التي عرفها العرب منذ العصر الجاهلي، لفصاحتهم وبلاغتهم، وقد تطورت أساليبها مع ظهور الإسلام وعصوره الزاهرة، وبروز الكثير من الخطباء والحكماء في شتى العصور الذين أبدعوا مئات الخطب والوصايا البليغة في الدين والآداب والحياة الاجتماعية. وقد ارتبط الزواج عبر العصور بهذا النوع من فنون النثر الأدبي، فعرف العرب خطبة الزواج منذ العصر الجاهلي، وصار كل زواج مقروناً بخطبة تسمى خطبة النكاح، قد تكون عند الخطبة أو عند عقد الزواج، كما عرف العرب عبر عصورهم المتعاقبة الوصايا الأدبية التي تقال للزوجة أو الزوج عند الزواج للانتفاع بها في شؤون حياتهم. نجد في تراثنا العربي نماذج من أبلغ خطب الزواج، لما تميزت به من الاختصار وبلاغة الألفاظ، وجمال العبارات، فقد خطب بلال بن رباح مؤذن النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى قوم من خثعم لنفسه ولأخيه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أنا بلال وهذا أخي كنا ضالين فهدانا الله، عبدين فأعتقنا الله، فقيرين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فالمستعان الله». وخطب عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان إلى عتبه بن أبي سفيان ابنته فأقعده على فخذه وكان حدثاً، ثم خطب فقال: «أقرب قريب خطب أحب حبيب، لا أستطيع له رداً، ولا أجد من إسعافه بداً، قد زوجتكها، وأنت أعز علي منها، وهي ألصق بقلبي منك، فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك، وقد قربتك مع قربك، فلا تبعد قلبي من قلبك». وكان الحسن البصري يقول في خطبة النكاح، بعد الحمد والثناء على الله: «أما بعد فإن الله جمع بهذا النكاح الأرحام المنقطعة والأنساب المتفرقة، وجعل ذلك في سنة من دينه، ومنهاجاً واضحاً من أمره، وقد خطب إليكم فلان، وعليه من الله نعمة، وهو يبذل من الصداق كذا، فاستخيروا الله وردوا خيراً يرحمكم الله». وتقدم الفضل الرقاشي إلى قوم من بني تميم ليتزوج منهم، فخطب لنفسه، فلما فرغ قام أعرابي منهم فقال: «توسلت بحرمة، وأوليت بحق، واستندت إلى خير، ودعوت إلى سنة، ففرضك مقبول، وما سألت مبذول، وحاجتك مقضية إن شاء الله تعالى». قال الفضل: لو كان الأعرابي حمد الله في أول كلامه وصلى على النبي، صلى الله عليه وسلم، لفصحني يومئذ. وعندما أراد المأمون أن يزوج ابنته من علي بن موسى، خطب فقال: «الحمد لله الذي تصاغرت الأمور بمشيئته، ولا إله إلا هو إقراراً بربوبيته، وصلى الله على محمد عند ذكره. أما بعد فإن الله قد جعل النكاح ديناً، ورضيه حكماً، وأنزله وحياً، ليكون سبب المناسبة، ألا وإني قد زوجت ابنة المأمون من علي بن موسى، وأمهرتها أربع مئة درهم اقتداء بسنة رسول الله، وانتهاء إلى ما درج إليه السلف، والحمد لله رب العالمين». نوادر خطب الزواج ويضم التراث العربي نوادر من خطب الزواج، فقد خطب رجل إلى قوم، فأتى بمن يخطب له فاستفتح بحمد الله وأطال، وصلى على النبي، عليه الصلاة والسلام، وأطال، ثم ذكر البدء وخلق السموات والأرض، واقتص ذكر القرون حتى ضجر من حضر، والتفت إلى الخاطب فقال: ما اسمك أعزك الله، فقال: والله قد أنسيت اسمي من طول خطبتك، وهى طالق إن تزوجتها بهذه الخطبة، فضحك القوم وعقدوا في مجلس آخر. وزوج خالد بن صفوان مولاه من أمته، فقال له العبد: لو دعوت الناس وخطبت، قال ادعهم أنت، فدعاهم العبد فلما اجتمعوا تكلم خالد بن صفوان فقال: «أما بعد فإن الله أعظم وأجل من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين وأنا أشهدكم أني زوجت هذه الزانية من هذا ابن الزانية». وخطب رجل خطبة نكاح وأعرابي حاضر، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة!. فقال له الأعرابي: لا تقم الصلاة فإني على غير وضوء!. وصايا نبوية وإذا تركنا خطب الزواج إلى وصاياه، نجد أن من أعظم وصايا الزواج ما وصى به الرسول، صلى الله عليه وسلم، فاطمة ابنته وعلي بن أبي طالب ليلة زواجهما، فعندما ذهبت فاطمة إلى بيت الزوجية وعند وداع النبي لعلي قال له: يا علي انتظرني حتى آتيكما، فقد أراد، صلى الله عليه وسلم، أن يكون آخر إنسان يجلس مع الزوجين قبل إغلاق الباب عليهما. ودخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال هات يدك يا علي هات يدك يا فاطمة، ووضع اليدين فوق بعضهما، وبدأ يدعو: «اللهم إن هذه ابنتي وأحب الناس إلى قلبي، اللهم إن هذا أخي وأعز الناس إلى قلبي، اللهم بارك لهما وبارك عليهما واجمع بينهما في خير»، ثم أخذ يد علي ووضعها على رأس فاطمة وقال له أن يردد: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما خلقت له)، وقام النبي صلى الله عليه وسلم، ومشى حتى باب البيت ثم التفت إلى علي وقال: «يا علي أوصيك بفاطمة خيراً أستودعكما الله لا تنسيا أن تصليا ركعتين». الوصايا العشر للزوجة العربية وتأتينا هذه الوصايا المهمة من التراث العربي في العصر الجاهلي، وهي وصية (أمامة بنت الحارث) زوج عوف بن محلم الشيباني، لابنتها أم إياس بنت عوف، عندما هيأتها الى زوجها (عمرو بن عوف بن حجر)، جد امرئ القيس الشاعر، وقد ضمت الوصية عشر وصايا تعتبر في مجملها قواعد للزواج السعيد وللبيت المستقر التي لا تعرف المشاكل الزوجية إليه طريقاً.. قالت هذه المرأة الخبيرة بشؤون الرجال والنساء لابنتها ليلة زفافها: أي بنية، إن الوصية لو تركت لفضل أدب، تركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال. أي بنية: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى رجل لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً، فكوني له أمة يكن لك عبداً. أي بنية.. احملي عني عشر خصال تكن لك ذخراً وذكراً: الصحبة بالقناعة. المعاشرة بحسن السمع والطاعة. التعهد لموقع عينيه فلا تقع عينه منك على قبيح. التفقد لموضع أنفه فلا يشم منك إلا أطيب ريح، والكحل أحسن الحسن والماء أطيب الطيب المفقود. التعهد لوقت طعامه فإن حرارة الجوع ملهبة، والهدوء عند منامه فإن تنغيص النوم مغضبة. الاحتفاظ ببيته وماله والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير والإرعاء على العيال والحشم جميل حسن التدبير. لا تفشي له سراً فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره. لا تعصي له أمراً فإنك إن عصيت أمره أوغرت صدره. ثم اتق الفرح إن كان ترحاً، والاكتئاب عنده إن كان فرحاً فإن الخصلة الأولى من التقصير والثانية من التكدير. كوني أشد ما تكونين له مرافقة يكن أطول ما تكونين له موافقة، واعلمي أنك ما تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك وهواه على هواك فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك. والد يوصي ولده عند الزواج وفي المقابل يوصي والد معاصر ولده عند الزواج بعشر وصايا لكي ينال السعادة في بيته، فيقول: أي بني.. إنك لن تنال السعادة في بيتك إلا بعشر خصال تمنحها لزوجك فاحفظها عني واحرص عليها: أما الأولى والثانية: فإن النساء يحببن الدلال ويحببن التصريح بالحب، فلا تبخل على زوجتك بذلك، فإن بخلت جعلت بينك وبينها حجاباً من الجفوة ونقصاً في المودة. وأما الثالثة: فإن النساء يكرهن الرجل الشديد الحازم ويستخدمن الرجل الضعيف اللين، فاجعل لكل صفة مكانها فإنه أدعى للحب وأجلب للطمأنينة. وأما الرابعة: فإن النساء يحببن من الزوج ما يحب الزوج منهن من طيب الكلام وحسن المنظر ونظافة الثياب وطيب الرائحة، فكن في كل أحوالك كذلك، وتجنب أن تقترب من زوجتك تريدها نفسك وقد بلل العرق جسدك، وأدرن الوسخ ثيابك، فإنك إن فعلت جعلت في قلبها نفوراً وإن أطاعتك، فقد أطاعك جسدها ونفر منك قلبها. أما الخامسة: فإن البيت مملكة الأنثى وفيه تشعر أنها متربعة على عرشها وأنها سيدة فيه، فإياك أن تهدم هذه المملكة التي تعيشها.. إياك أن تحاول أن تزيحها عن عرشها هذا، فإنك إن فعلت نازعتها ملكها، وليس لملك أشد عداوةً ممن ينازعه ملكه وإن أظهر له غير ذلك. أما السادسة: فإن المرأة تحب أن تكسب زوجها ولا تخسر أهلها، فإياك أن تجعل نفسك مع أهلها في ميزان واحد، فإما أنت وإما أهلها فهي وإن اختارتك على أهلها فإنها ستبقى في كمد تنقل عدواه إلى حياتك اليومية. أما السابعة: فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وهذا سر الجمال فيها وسر الجذب إليها، وليس هذا عيباً فيها (فالحاجب زينه العوج) فلا تحمل عليه إن هي أخطأت حملةً لا هوادة فيها تحاول تقييم المعوج فتكسرها وكسرها طلاقها، ولا تتركها إن هي أخطأت حتى يزداد اعوجاجها وتتقوقع على نفسها فلا تلين لك بعد ذلك، ولا تسمع إليك، ولكن كن دائماً معها بين بين. أما الثامنة: فإن النساء جبلن على كفر العشير وجحدان المعروف فإن أحسنت لإحداهن دهراً ثم أسأت إليها مرة قالت: ما وجدت منك خيراً قط، فلا يحملنك هذا الخلق على أن تكرهها وتنفر منها فإنك إن كرهت منها هذا الخلق رضيت منها غيره. أما التاسعة: فإن المرأة تمر بحالات من الضعف الجسدي والتعب النفسي، حتى إن الله سبحانه وتعالى أسقط عنها مجموعةً من الفرائض التي افترضها في هذه الحالات، فقد أسقط عنها الصلاة نهائياً في حالة الحيض وفترة النفاس، وأنسأ لها الصيام خلالهما حتى تعود صحتها ويعتدل مزاجها، فكن معها في هذه الأحوال ربانياً, كما خفف الله سبحانه وتعالى عنها فرائضه أن تخفف عنها طلباتك وأوامرك. أما العاشرة: فاعلم أن المرأة أسيرة عندك فارحم أسرها وتجاوز عن ضعفها، تكن لك خير متاع وخير شريك. أب يوصي ابنته وإذا كان من المعهود أن توصي الأم ابنتها باعتبار القرب والألفة بينهما، فقد يضطر الأب عند فقد الأم إلى أن يقوم بهذا الواجب تجاه ابنته المقبلة على حياة جديدة في ظل زوج تنتظر منه الحب والرعاية والألفة والمودة، وقد وجدنا نموذجاً لهذه الوصايا الأبوية، وهي وصية (خارجة الفزاري) الذي كتب إلى ابنته هند حين أراد الحجاج أن يتزوجها. قال: يا بنية، إن الأمهات يؤدبن البنات وإن أمك هلكت، فعليك بأطيب الطيب وهو الماء، وأحسن الحسن وهو الكحل، وإياك وكثرة المعاتبة فإنها قطيعة للود، وإياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وكوني لزوجك أمة يكن لك عبداً، واعلمي أني أنا القائل لأمك عندما تزوجتها: خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب ولا تنقريني نقرة الدف مرة فإنك لا تدرين كيف المغيب فإني وجدت الحب في الصدر والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب وقد أجمل خارجة نصيحته بأن تهتم ابنته بنظافتها الشخصية وزينتها وعدم الثرثرة في كل الأمور، والحد من الغيرة، والطاعة في كل الأمور، ومراعاة حال الزوج النفسية، ومشاركته مشاعره، وهي قواعد هامة للسعادة الزوجية والاستقرار الأسري.