المتأمل في حال شريحة كبيرة من أبنائنا في فترة الاختبارات هذه الأيام، يجد جيلاً أجاد الهرب من الرقابة الأسرية، واستحلب قدرات أهله المالية بأحدث أنواع الجوالات وأغلى أنواع الوجبات العصرية الجاهزة. جيل تفنن في الإسراف والهدر وإضاعة الأوقات طوال أيام العام الدراسي، فتهدمت هممه وترهلت طموحاته ليصبح اهتمامه الأول متمحوراً حول صغائر الأمور، فلا يحوي عقله من المعارف إلا مواعيد المباريات وأخبار عقود اللاعبين وأماكن احترافهم الجديدة. فلما هجم عليه موعد الامتحانات صحا صحوة النائم من حلمه واعترته الدهشة، فأخذ يجري بحثاً عن الملخصات الجاهزة والقصاصات المصغرة والمختصرة. وداخل قاعة الاختبار ترى عيوناً مليئة بالمراوغة ووجوهاً مشبعة بالاحتجاجات المفتعلة على من وضع الاختبار، وألسناً لا تخلو من وقاحة المصارحة مع المراقبين للتواطؤ والتغاضي. ما يدفعنا للكلام عن هذا الموضوع هو الاختلاف الكبير في الصورة بين طلاب اليوم وطلبة الأمس. قبل ربع قرن كان المنزل الذي لديه طالب في الثانوية العامة في حالة استنفار تام لتوفير أعلى درجات الهدوء والراحة لهذا الطالب، الذي يراد له أن يحصل على مجموع مشرّف، ليكون هذا المجموع وقود التحليق نحو القمم. نعم لقد كان التشاوف بالتفوق الدراسي للأبناء شائعاً بين العائلات التي تقدم التضحيات ونفيس المباذل من المصابرة والمتابعة على تربية الأبناء، مع شيء من الحرمان الرحيم لمعرفة قيمة الأشياء. كانت المثابرة أول قيمة يتعلمها الأبناء من آبائهم، لأن الأولاد كانوا يشاركون الآباء أعباء الحياة اليومية لإطعام البطون الخاوية في الأسرة. وحسبنا أن نعلم أنه لا شيء يقوم مقام المثابرة في الوصول إلى النجاح. فالموهبة والذكاء والمعرفة كلها لا تساوي شيئاً بلا مثابرة، فهي الصفة الوحيدة التي تحمل الإنسان على الاستمرار في المسير نحو الهدف. في إحدى الدورات التي قدمتها عن (غرس المثابرة في الأبناء) فوجئت بأن غالبية الحاضرين من الآباء يريدون أن يعرفوا كيفية اكتساب المثابرة لأنفسهم قبل أبنائهم. والحقيقة لو كان لي من الأمر شيء، لجعلت المثابرة على رأس القيم التربوية، التي تغرس في المدارس، فبوجودها تنتهي معظم مشكلاتنا التربوية.