×
محافظة المنطقة الشرقية

«رؤية» تستضيف معرض العراقي قيس

صورة الخبر

«كيف في وسع أي كائن أن يكون طبيعياً في واقع غير طبيعي»؟ قالها محمود درويش ذات يوم في (ذاكرة للنسيان ).. قالها يوماً حين كانت فلسطين فقط هي من تجعل الواقع العربي غير طبيعي، لو كان محمود درويش على قيد الحياة ما الذي كان سيقوله الآن وبلاد العرب تنبت المقابر اليومية وتبتكر وسائل مختلفة للموت بأيدي أبنائها أنفسهم لا بأيدي أعدائهم الإسرائيليين، ليبدو الربيع العربي هكذا وكأنه صانع ماهر لهذا الموت ولتصبح الأحلام عنه مجرد محاولات للنجاة من الموت قتلاً أو من الموت ظلاماً؟! كيف بوسع أي منا أن يكون طبيعياً وهو يرى كيف يتفتت مستقبل بلاده ليتحوَّل إلى تراب، وهو يرى أحلام أبناء هذا المستقبل ودماءهم تباع في أسواق السياسة الدولية كما لو كانت بضاعة بخسة الثمن ولا قيمة لها إلا بما تحققه من مكاسب لتجار الدم العربي ؟! كيف سيكون أي منا طبيعياً وسط كل هذا الخراب المعمم على بلادنا كعقاب يومي على جرأتنا على الحلم وجرأتنا على الماضي وعلى الحاضر وعلى جرأتنا على تفكيرنا المشروع بالمستقبل ؟! في قلب طوفان الموت هذا لايمكن لأحد أن يكون طبيعياً أو متوازناً أو مجنوناً أو يقينياً أو ارتيابياً، ما يحدث هو حالة من حالات فقدان الحواس في بؤرة فراغ عدمية بالكامل ! إذا، وسط كل هذا ماذا يمكن للشاعر، تحديداً، أن يفعل وما معنى الشعر الآن، ما هي قيمته وماهو هدفه والأهم: ما هو تأثيره على مجريات الحدث اليومي؟ قد يبدو سؤال الشعر مجرد ترف وسط هذه المقتلة اليومية التي لايبدو أنها ستنتهي قريباً لكنه ،وأزعم، هو هاجس الشعراء اليومي لاسيما في بلدي سوريا حيث الموت هو الكاتب الكبير هناك الآن وحيث مفرداته هي من تنتشر على كامل الأرض، السورية متفوقاً على الجميع بخياله المجازي أو بلغته المباشرة شديدة الوضوح والرؤية، ما دور الشعر إذا وسط كل هذا؟ قد يبدو السؤال غير منطقي وقد لا يحتاج لإجابة محددة وليس هو أصلاً بسؤال ملح، إذ في زحمة جعجعة السلاح وصوت التطرف العالي ووقاحة الغطرسة العسكرتارية الأمنية الاستبدادية ورائحة الأشلاء البشرية و ترجيع صوت آخر ضحكات الألم للأطفال السوريين والترجيع المتتالي لصور من ذهبوا، والنمو اليومي لأشواك الانقسام والحقد الذي لن يرحم أحداً هناك، ومحاولات بعضهم لسحب سوريا إلى الوراء إلى عصور ما قبل تاريخها الحضاري، والفوضى العارمة التي أتاحت لمرتزقة العالم استباحة أرض سوريا ووصول الحال إلى عنق الزجاجة حيث لا مجال للعودة ولاطريقاً سالكاً للعبور وغياب أية بادرة لحل سياسي عقلاني ينقذ ما تبقى من معالم وطن كان، في زحمة كل هذا سيبدو الشعر كما لو كان مشروع نبتة خضراء بالغة الصغر في حجمها قد لا يلاحظها أحد ما بين هذه الخرائب الكارثية وقد لا تعني شيئاً لأحد الآن، لكن يمكنها أن تؤسس لمساحة أقل قحلاً وخراباً لاحقاً، لهذا يبدو الشعر السوري الذي يكتب الآن أكثر انسحابا إلى عمق الألم الإنساني، يبدو متخففاً جداً من مفردات المقولات الكبرى وملتصقاً بمساحة الحزن في ذات الشاعر السوري، تلك الذات التي تصرّ على وجودها رغم كل شيء، التي تصرّ على التحقق اليومي ولو بحدوده الدنيا ،تلك الذات الرافضة لكل ما يسعى لتدمير كينونتها وبنيانها النفسي الهش أصلاً بطبيعته والمنكسر أصلاً بسبب عقود الاستبداد الطويلة التي دمرت ما استطاعت تدميره من الروح السورية وها هي تكمل مشروعها الآن بتدمير الكيان السوري المجتمعي والجغرافي واللوجستي، يبدو ما يكتب من الشعر السوري اليوم هو محاولات للإعلان عن وحشة الروح وخوفها ووجعها وطرد ما تكتنزه الوحشة من ظلام في لا وعي الشاعر، هو محاولات لإنقاذ بصيص الضوء الداخلي من الانطفاء، محاولات للاحتفاظ ولو بشيء يسير من الإنسانية داخل الشاعر عبر مداورة الموت وأنسنته وتجربته وتجربة احتمالاته ومن ثم اختزاله والإعلان عنه ولفظه خارجاً كمن يقول له : مهما تسيدت وتسيدت حاشيتك نحن سنبقى أحياءً وسنستثمر ما تبثه من ألم في دواخلنا ومن حزن ومن ضعف لنقوى قليلاً ونقاومك، هو محاولات للشفاء من التصحّر والحياد والتشيّء والدخول في نسق الموت اليومي، محاولات لخلق منجى فردي وإن كان بالغ الضعف والصغر لكنه قد يكون كافياً لمقاومة غواية الموت السهل بتجلياته كلها، لا يبدو الشعر السوري اليوم شعراً تحريضياً ولا شعراً منبرياً ولا شعراً ثورياً ولا يشكل مشهداً شعرياً واضح الملامح والمعالم هو اليوم ليس أكثر من محاولة لخلق ذواكر يومية لنسيان هذا الموت اليومي، ليس هو. • كاتبة وشاعرة سورية