النسخة: الورقية - دولي على امتداد القسم الأكبر من المرحلة التالية للاستعمار، خضعت مصر وتونس لحكم استبدادي، كان عازماً على إعادة توزيع الدخل على الفقراء في أسفل الهرم الاجتماعي في البلدين، وذلك إما لأسباب إنسانية، أو كما هو الحال في تونس، للمساعدة على استحداث قوى عاملة تتقاضى رواتب متدنية تُعتَبر ضرورية لاستقطاب الاستثمارات الأوروبية إلى القطاع الصناعي المتعثّر في البلاد. وقد تمّ تطبيق هذه السياسات باعتماد عدد من التكتيكات المعروفة، بما يشمل استحداث وظائف حكوميّة بأعداد متزايدة باستمرار، وتحديد حد أدنى للأجور، وتوفير سلع تُعتَبر من ضروريات الحياة بأسعار مدعومة، كانت تُعرَض للبيع ضمن شبكة تضمّ آلاف التعاونيات في مصر، وعن طريق «الصندوق العام للتعويض» الذي تأسس في عام 1970 في تونس، بهدف توفير الطعام والنفط بأسعار ميسّرة. ولكنّه تبيّن مع الوقت أن مخطّطات من هذا القبيل انطوت، لأسباب متعددة، على تكاليف متزايدة، إذ تعذّر على الحكومتين استهداف الفقراء لأسباب إدارية بمعظمها، فتمّ تطبيقها على الطبقة المتوسطة عموماً، وفي بعض الحالات حتى على السياح والزوار. وبالنتيجة، تمت محاولات في ثمانينيات القرن العشرين وتسعيناته، لتقليص حجم الدولة، مع الاعتماد على القطاع الخاص كمصدر للاستثمارات، وبالتالي لوظائف جديدة. يشار إلى أنّ المحاولات الهادفة إلى تخفيف العبء الهائل، المتأتي عن دعم السلع، لم تتكلّل بالنجاح. فمن جهة، كان رفع الدعم عن السلع في هذه المنطقة يؤدي عادةً إلى احتجاجات شعبية فورية، على غرار ما عُرف بـ»انتفاضة الخبز»، التي شهدتها القاهرة وتونس في أواخر سبعينات القرن العشرين ومطلع ثمانيناته. ومن جهة أخرى، اتّضح أنّ الدعم المذكور لا يلقى أيّ شعبيّة، وذلك لأنّ مؤيدي النظام الأساسيين من الطبقة المتوسطة لم يكونوا فقط كبار المستفيدين من دعم الحبوب، إذ إنّهم اعتمدوا أيضاً، أكثر من الفقراء، على النفط المباع بأقل من سعره العالمي، لملء خزّانات سيّاراتهم، وقد تسبّب هذا الوضع بزيادة التكاليف المترتّبة على الحكومة في الدولتين، لا سيّما مع معاودة ارتفاع هذه الأسعار ذاتها خلال القرن الحادي والعشرين. واليوم، وبدعم من ظهور مجموعة أساليب جديدة أكثر دقّةً لاستهداف العائلات، تحاول الحكومتان المذكورتان من جديد. وفي التفاصيل، توزَّع في مصر بطاقات بلاستيكية على أصحاب السيارات، للمساعدة على تعويض السائقين عن رفع الدعم عن الوقود. وفي هذا الإطار، ثمّة خطّة أرساها وزير التموين الجديد، تقضي بتوزيع مجموعة جديدة من البطاقات البلاستيكية، التي تخوّل حاملها الحصول على قدر محدد من الخبز مقابل سعر رخيص. أما في تونس، فيُقدم مهدي جمعة، رئيس الوزراء الموقّت الجديد، على محاولة دقيقة، تقضي بالتوفيق بين تخفيض الدعم من جهة، ومواجهة عجز موازنة بقيمة بليوني دولار من جهة أخرى، بطريقة لا تخيف السياح والمستثمرين المحتملين، على خلفيّة موجات جديدة من الاحتجاجات الشعبية المشوبة بالعنف. وقد ألقى جمعة خطاباً بالغ الأهمية خلال مؤتمر صحافي عقده إبّان عودته من زيارة إلى الولايات المتحدة في 6 نيسان (أبريل) الماضي، أصدر خلاله أربعة إعلانات، فاستبعد أولاً أي خفض للوظائف أو الرواتب خلال السنة الجارية. ووعد ثانياً ألا تشمل موجة إصلاحاته الحالية زيادات سعرية تشمل الوقود أو الخبز. وأعرب ثالثاً عن الحاجة إلى إجراء حوار وطني اقتصادي يكمّل الحوار الوطني السياسي الذي نتج منه دستور جديد، ستليه انتخابات وطنية في وقت لاحق من السنة الجارية. وبالنسبة إلى النقطة الرابعة، فإنها تتمحور حول إطلاق مبدأ ثوري لم يختبره أحد سابقاً في العالم العربي، على حد معرفتي. ويقضي بعدم استهداف الفقراء، إنما الطبقة المتوسطة، من خلال توجيه بعض من الدعم العام نحوها، والأهم من ذلك، استعمال مقاييس للتفرقة بين الأسعار المدفوعة مقابل البنزين، المستعمل بكثافة ضمن الطبقة الفقيرة، والطاقة الكهربائية، المستعملة على نطاق أوسع بكثير ضمن الطبقة المتوسطة. بيد أن مشاكل كبيرة جدّاً تبقى قائمة من دون حل، أقلّه في الوقت الراهن، لا سيّما في مجال دعم الطاقة، الذي سجّل في الشرق الأوسط، خلال عام 2011، مستويات أعلى بكثير من أي منطقة أخرى من العالم. وفي هذا السياق، يشير استطلاع أجراه الدكتور إسحاق ديوان من معهد كيندي في جامعة هارفارد إلى أن نصف هذا الدعم يذهب إلى منتجات النفط، تليها الطاقة التي تتخذ شكل كهرباء وبنزين. ولكنه يلاحظ قائلاً إنه على رغم ذلك، يتبع الدعم المذكور منحىً تراجعياً إلى حدّ كبير، بالنظر إلى أنّ الأثرياء يستهلكون منتجات النفط بأحجام أكبر بكثير من الفقراء. وفي مصر مثلاً، تشير أرقام الاستطلاع إلى أن نسبة 46 في المئة من المنافع المتأتية عن الدعم ذهبت إلى نسبة 20 في المئة من الناس في قمة الهرم الاجتماعي خلال عام 2008. وما يزيد الأمور تعقيداً هو أن شريحة كبيرة من الأثرياء والميسورين، ويُنظر إلى عدد كبير منهم على أنهم ليبراليون علمانيون متى كان الأمر مرتبطاً بمعارضتهم للإخوان المسلمين، هرعوا لدعم المشير السيسي الذي يقترب من تبوؤ سدّة الرئاسة، في محاولة للاحتفاظ بالبوابة التي تخوّلهم النفاذ إلى أهم مصدر للسلطة الاقتصادية والسياسية في مصر، علماً بأن كل ما سبق يحتّم أكثر بكثير إيجاد طرق مبدعة لفرض ضرائب على استهلاك الأثرياء، مع مواصلة دعم استهلاك الفقراء. وسبق أن رأينا مؤشراً على ما يمكن أن تفعله الحكومة المصرية على صعيد تنفيذ السياسات الجديدة، بعد أن اتخذت قراراً في نيسان (أبريل) الماضي بزيادة تكاليف استهلاك الغاز الطبيعي المستعمل للطهي بأربعة أضعاف. وستقوم بعد ذلك بمحاولات للحدّ من الانقطاعات اليومية للتيار الكهربائي، التي طاولت أرجاء كثيرة من مصر خلال فصل الربيع. وعلى رغم تراجع حدّتها جرّاء استيراد المازوت، الذي يسمح بمواصلة تشغيل محطات توليد الكهرباء، فمن المتوقع أن يعود التيار الكهربائي إلى الانقطاع صيفاً، في أوج موسم الحرّ. ويتّضح أنّ سنوات طويلة قد تمرّ قبل إيجاد حلّ نهائيّ للمشاكل الهائلة المترتّبة عن خفض مستويات الدعم الذي يستنفد جزءاً كبيراً من الموازنة في كلّ من مصر وتونس. ولكن من شأن خطوات مبدعة تُتَّخذ لتوجيه الدعم بمزيد من الدقّة نحو من يحتاج إليه فعلاً أن تلقى ترحيباً، لا سيّما إن تم عرضها بوضوح ودقة، ضمن إطار حوار وطني اقتصادي يمتدّ على نطاق أوسع. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد