الكل يعيش في صراع تتسع دوائره وتضيق حسب اختلاف الجنس والديانة والعمر والأماكن والمناصب والمسئوليات والعلاقات والاهتمامات، وأشدها في نظري وأكثرها إيلاماً ما كان بين الإنسان ونفسه. حين يقع الواحد منا في جرم ما صغر هذا الجرم أو كبر يعيش هذا الإنسان أقسى أنواع العذاب ويخوض معركة ضارية يواجه فيها نفسه التي قد تنازله وتنازعه، وربما انفصلت عنه فعاش فصام الشخصية وصار في عداد المرضى. اسألوا إن شئتم القابعين خلف القضبان الحديدية داخل زنزانات السجون، أو أولئك المرضى الذين يمضون أوقاتهم في تقليب صفحات حياتهم والتفكر في ماضيهم أسوده وأبيضه وضبابيهِّ، أو حتى الكبار الذين أعجزهم تقلب الجديدين «الليل والنهار» عن الضرب في الأرض فصاروا في خانة الصفر، زهدوا بالحياة وجلسوا يتذكرون ما مضى من أعمارهم وأعمالهم بمرارة وألم، فكانت سياط ضمائرهم لهم بالمرصاد. دخول أي منا في هذا النوع من المعارك له أسبابه الشخصية التي قد تختلف من إنسان لآخر ولكنه اختلاف نسبي في ظني، ولعل من أبرزها حسب اعتقادي: ) محاولة هذا الإنسان حين مرحلة الشعور بالنشوة والقوة تغييب الضمير في داخله وعدم الاستماع لتأنيبه، بل ربما سعى إلى ترويضه فجعله هو من يبرر له ويمنحه زاد المسير إلى عالم التيه والضياع. ) العمل على حرق المراحل وصولاً لما يريد بسرعة متناهية وبأي ثمن ولو على جثث الآخرين. ) إشعار الإنسان نفسه بأنه هو من يفهم كيف هي الأمور تكون، واستصغار عقلية الغير، واحتقار صنيعهم وازدراء أشخاصهم والمبالغة في مدح الذات وتعظيم إنجازها. ) اتباعه خطوات الشيطان والمضي قدماً في درك الشهوات أياً كانت هذه الشهوة «مالاً، منصباً، جاهً، نساءً، مركباً...»، وشعوره بأن كل ما يتحقق له هو في حقيقته إنجاز شخصي جديد سيوصله إلى سدة السيادة ويبلغه عالم الشهرة وسيبوئه مكانةً عليا كثيراً ما كان يحلم في الوصول إليها وقد يجلسه صنيعه هذا على كرسي القيادة يوماً ما، حينها يمكن له أن يتوب ويعود إلى رشده وينسى أو يتناسى ماضي أيامه. ) الاستماع لما يقال في كثير من مجالسنا من أن هؤلاء الأثرياء الذين نظن جميعاً أنهم سعداء وبمنآى عن معركة الذات استطاعوا تكوين ثرواتهم بطرق ملتوية وبأساليب مشبوهة، ومع ذلك لم يستطع الرقيب الإمساك بهم، وعلى افتراض أنهم وقعوا يوماً ما تحت طائلة المحاسبة فلا عقاب ولا جزاء. أسعد الناس هم من يعيشون متصالحين مع ذواتهم، لم ينم ضميرهم يوماً ما فضلاً عن أن يموت، يعرفون حقيقة الدنيا ويرضون بالقليل ويتدثرون بالقناعة ولو بالشيء اليسير من أجل أن ينالوا السلامة ويظفروا بالأمان الدنيوي والآخروي ويسلموا من دعاء الناس عليهم فـ«دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب». إن من يعيش انسجاماً مع ذاته ويعيد ترتيب داخله كلما هزته معركة الحياة وحركتّ ما بين الحنايا مغريات الدنيا وتراقصت بين عينيه مفاتنها هو من أصح بني آدم نفساً حتى ولو كان نكرة لا يعرفه منا أحد وليس له حساب ادخاري أو جاري، ويعيش على الكفاف. جميل أن ندرك هذه الحقيقة والأجمل أن نعرف كيف لنا أن نتصالح مع ضمائرنا فنسلم من سياطها عندما نفيق، وحين نمرض، وفي ساعة الاحتضار وقرب دنو الأجل. إننا قبل أن نطالب بالتصالح مع الغير وفتح قنوات الحوار مع الآخر يجب أن يتصالح كل منا مع نفسه.. ينتصر في معركة الذات من أجل أن نحقق نحن كأمة النصر والتمكين الذي هو وعد الله لنا، وإذا لم يكن منا ذلك فلن ننال الخيرية على باقي الأمم، ولن تكون لنا الشهادة على الناس، وستسلب منا العزة التي هي في الأساس ميراث المؤمنين الصادقين في علاقتهم بربهم وحسن معاملتهم مع خلقه، دمتم بخير، وتقبلوا صادق الود، والسلام.