النسخة: الورقية - دولي يحصل أن يعمل السياسيُّ لخدمة ما يرفضه لفظاً من دون دراية. هذه الفرضية يمكن أن تجد دلالاتها في نتائج فعل الجماعات السياسية بشكلٍ أوضح، ومثال حركة حماس في الوضع الفلسطيني قد يكون دليلاً على صحتها. فالحركة التي كانت ترفض التسوية القائمة على حلِّ الدولتين جملة وتفصيلاً، عرفت محطات عدّة قبل أن تصل إلى حيث صنعت مؤسسات دولة لم تخرج في واقع الحال عن سياق لطالما اعلنـت عن رفضه بالجملة. وهذا الأمر وضعها في تناقض بين ضرورتين مختلفتين، واحدة لبرنامجها السياسي المنتمي الى حركات التحرر الوطني، إلى هذا الحد أو ذاك، والثانية لمؤسسات حكم أنشأتها وصار لها حياتها المنفصلة بما فيها من مصالح وثقافة. وإذا كانت العصبية الإيديولوجية، بمعونة الجهاز العسكري للحركة، فرضت خطابها وضغطت على التعبيرات الدولتية فيها وعملت على تطويعها لخدمتها، إلا أن التطورات الأخيرة في المنطقة، بما فيها الانقسام الحادّ (السنّي-الشيعي) والانقلاب في مصر، وضعت الحركة في مواجهة استحقاقات تقوّي المؤسسات وتظهرها حلاً لمصير بدأ يلوح في الأفق أو على الأقل تتعاظم الهواجس منه. ففي المنطقة ترجّح الأوضاع الناتجة من «الربيع العربي» سيطرة الفوضى لزمنٍ ليس بالقصير، فتظهر فيها قوى ومصالح وأفكار جديدة، وتتغير التحالفات مرة بعد مرة بتغير المصالح وبفعل المستجدّات في واقع سيّال. وفي الوقت الذي يتوقع أن تميل قطاعات من الناس باتجاه ما تتأمل منه إعادة الاستقرار والأمن، يغلب أن ترفض أخرى ما تعتبره ضيماً لها ونصراً لظلاّمها بعد كل ما تعرضت له من ضرر. إلا أن التفاوت في المصائر، على مستوى المنطقة، والبلد الواحد، على المدى المتوسط سيبقى سائداً حيث يرجح أن تكون الغلبة في كلِّ بلدٍ لتيارات على حساب أخرى مرتبطة بالمدى الذي وصل إليه الصراع، والمزاج العام السائد، ومسلك الفاعلين الإقليميين. في هذا الوقت يميل الناس في البلدان التي لم تصل إليها موجة الثورات باتجاه اختيار الاستقرار الذي تجلبه المؤسسات القائمة، وإن كان على حساب حقوقهم المهضومة، تحسّباً من دخول منطقة الفوضى. وبدورها تمتلك حركة حماس مؤسسات حكم مستقرة (وإن على أزمة) في قطاع غزة. وهذه المؤسسات معنيةٌ أيضاً بالاستقرار على خلاف خطابها «الثوري»، وتشعر بالخطر الداهم من حُكمٍ مصريٍّ غاضبٍ على الإخوان المسلمين ومُصرٍّ على الانتقام منهم لدورهم في الثورة عليه ولخوفه من قدرتهم على النهوض لمنازعته. وهذا ما طرح على حماس الاختيار بين انتظار قدرها بتعنّت، أو محاولة إيجاد مخارج عبر المصالحة مع حركة فتح والدخول في النظام السياسيّ الفلسطينيّ بعد أن حاولت أن تكون بديلاً منه. وقد وصلت حماس إلى المصالحة حركةً أخرى غير تلك التي انقلبت على سلطة الحكم الذاتي المحدود التي نشأت عن أوسلو. فقد أضافت السنوات الثلاث الأخيرة الكثير إلى الخبرة السياسية التي حازتها بين الحدثين، والمقصود تجربة التفاؤل بانتصار الإخوان المسلمين في المنطقة في سياق «الربيع العربي» وما شهدته من تدهور في وضعهم بدلاً من ذلك. ومما تختلف فيه الحركة اليوم أنها عرفت الحكم وبنت مؤسسات له، وأنها تدخل المصالحة وفيها آلاف من الخريجين، من جامعاتٍ قطاع غزة التي أشرفت عليها، وممن عادوا من الجامعات الإسلامية، ودرسوا اختصاصات مختلفة منها علوم الإدارة والسياسة والاقتصاد، وهم متحفزون للمساهمة في بناء الدولة. وهم أكثر تمثلاً لـ «الحداثة» من أسلافهم، ومنهم من درس التجربة الماليزية والتركية (بعضهم في جامعاتهما) ويسود لديهم طموح نقل تجربة نظرائهم في البلدين. ومنهم من اجتهد في تقليب أحوال مؤسسات الحكم في قطاع غزة، وأنتجوا وجهة نظر في ما يعتبرونه مميزاتها وعيوبها. هؤلاء، لكلّ ما سبق، ورغماً عن بعض تفاصيل رأيهم السياسي الآني، يشكلون إسناداً كبيراً لخيار الدولتين، تحديداً لأن وعيهم وتجربتهم تشكّلا في ظلِّ قطيعةٍ كاملة مع الاحتلال الإسرائيلي، ولما تبعث عليه عقيدتهم من اهتمام ببناء المجتمع المنفصل وإن على حساب الأرض. ما يدعم الفرضية التي انطلقنا منها، حيث يتلقى النظام السياسي الفلسطيني المنهَك دعماً غير متوقع ممن واجهوه وانقسموا عنه وخاضوا حربين مع إسرائيل تحت عنوان رفض خياراته السياسية. ما سبق ليس بالنهائي، فحماس لديها مشكلاتها التي نتجت من جذورها الإخوانية، وهي التي منعتها من قيادة الحالة الفلسطينية حينما توافرت الظروف لتفعل. والعقيدة لديها هي صمغ العلاقة بين كتلٍ تمتلك الكثير من التناقضات، وهو ما تبدي قيادتها السياسية حرصاً عالياً على عدم المسّ به خوفاً من التفكك. وهذه، تخوض اليوم غمار امتحان سيوضح مدى قبولها الوطنية الديموقراطية. إلا أن المراجعات الواسعة التي تجرى في صفوف الإخوان المسلمين، وعودة نموذج حركة النهضة التونسية ونجاحاتها في الشراكة مع القوى الأخرى إلى موقع الإلهام، إضافة إلى نجاحات حزب العدالة والتنمية التركي، وما أسلفنا ذكره من أخطار... تدعو للتفاؤل بأن تكون النتائج لمصلحة الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يتناسب مع طموحات شريحة ليست بالقليلة من مثقفي حماس الشباب، ومع حرص المؤسسات في غزة (بما هي كيان مدرك لذاته ومصالحه) على الاستقرار والنمو. يبقى القول إن من غير المعلوم مدى إدراك محمود عباس لجوانب الفائدة التي يجنيها النظام الذي يقف على رأسه من المصالحة، إضافة الى ما لا بد من أنه يعلمه من فائدة سياسية مباشرة، ولا إن كانت حماس قادرة على التأقلم مع ما بنته بيديها من مؤسسات واحتياجاتها بعد أن يحوز ما بنت استقلاليته عنها، أو كيف ستتعامل مع هذا الأمر، تحديداً أنه سيمرُّ عبر وحدةٍ سياسية تحرمها من احتكار السلطة تحت غطاء حكمٍ إسلاميٍّ غير معلن عنه ولكنه يرضي مكوناتها عقائدياً ويهدئ من خلافاتهم السياسية. وفقط حينما تتضح معالم الإجابة عن هذه الأسئلة، مضافاً إليها استعداد بنية فتح المتهالكة للتعامل مع شريكٍ قويٍّ ضمن نظامٍ سياسي واحد، يمكن توقع مسارات الصراع البيني في النظام وصراعه مع إسرائيل الشريك-العدو الذي لا يبدو أي أفق للفكاك منه. * كاتب فلسطينيّ/سوريّ