النسخة: الورقية - دولي لعل ذاكرة الدراماتيكية السياسية الحديثة والمعاصرة لم تشهد في طور من أطوارها ما تشهده الآن من تعايش وانغماس في لحظات صراعية محمومة يجسدها احتدام المصالح وتضارب الأهداف كنتيجة منبثقة من تناقضية الرؤى والفكر الباحث دائماً عن مآربه والعاصف دوماً بغايات غيره. فبين استعادة الأدوار وتضخم الكيانات وانكماش الأنظمة وخفوت الأصوات وتآكل الهشاشات وتجليات الصعود وخيبات الإنزواء والهبوط، يكمن الأمل في الاستحواذ على مسارات القيادة الكونية بالشكل الذي جعله يمثل شعوراً مشتركاً يخامر الجميع، لكن للقيادة أسساً ومعادلات لا يسمح باجتيازها إلا لمن استوقفته مجريات حركة التاريخ وبروتوكولات التحول الاستراتيجي وأغوار وتفصيلات المعترك السياسي، بما يجبه من نظريات المراوغة وفنون التحايل وكاريزما الريادة، إلى غير ذلك من الآليات المؤهلة لتحريك وغربلة المنظومة الكونية في اتجاهات متصارعة لتظل العصمة السياسية في يد من يصونها. ولعل المشهد السياسي العالمي الراهن يعد استنساخاً مباشراً لكل ذلك، إذ كشف تقرير ستراتفورد الصادر عن المجموعة البحثية الأميركية بعضاً من الأبعاد المتعلقة بالأقطاب الكبار كروسيا وأميركا في جولة متجددة من جولات التحفز والاستعداء وتوكيد الذات. فحين تتواجه الفيلة يكون العشب أول من يدفع الثمن. ويعرض التقرير في بداياته لفكرة أن تكون روسيا هي الشريك الاستراتيجي المرتقب لمصر بعد أن مدت لها جسور التعاون إزاء كافة الكوارث والأزمات التي حصدت مصر آثارها جراء الحكم الإخواني المدعوم أميركياً بما يجعلها في رفعة عن الحاجة بعد تجاوز أزماتها من نقص حاد في الطاقة إلى تضخم فاتورة واردات القمح، وصولاً إلى تراجع الإحتياط النقدي بسبب الاضطرابات السياسية والاجتماعية ذات الإنعكاس المؤثر في الاستثمارات. ذلك بجانب الاستعداد الروسي الجبار نحو تطوير البنية التحتية والمصانع والمنشآت التي تم تشييدها في الماضي، إضافة إلى بحث إنشاء مناطق لتصنيع الآلات والمعدات الزراعية، وتأتي صفقات السلاح تتويجاً لبانوراما التعاون المشترك. ويسرد التقرير مجموعة من الحقائق التاريخية عن محاور وأطراف اللعبة المستقبلية، أولها: أن التقارب والإلتفاف بين القاهرة وموسكو حول المصالح المشتركة التي تفرضها اللحظة الآنية مهما يكن، يصعب أو يستحيل معه التغاضي عن العلاقات المصرية الأميركية، وأن التنافس الروسي - الأميركي على بسط نفوذهما على مصر سيتيح أمام الدولة المصرية فرصة جيدة لتحقيق أقصى درجة استفادة من القوتين العالميتين. وثانيها: أن مساعي الجانب الروسي لتوطيد العلاقات مع القوة الإقليمية التي هي مصر سيدعم صورة روسيا ليست كقوة عالمية فقط، ولكنه سيقلل ويضعف من وضعية الولايات المتحدة كقوة عظمى متصدرة في الساحة الكونية. أما ثالثها فإنه رغم نجاح إيران في خدمة الأهداف الروسية وعلى مدى سنوات طوال إلا أن البانوراما التفاوضية أميركياً وإيرانياً فرضت على موسكو وفي شكل حتمي ضرورة البحث عن خلفاء جدد، وهو ما دفع موسكو بالفعل إلى دعم العلاقات مع سورية وفتح مجالات التفاوض والاتفاق حول التجارة والاستثمار في العراق، لكن الجائزة الكبرى تظل معلقة بمصر. ويطرح التقرير نتائج شبه تحذيرية مؤداها أنه في إطار التوحد العضوي مصرياً وروسياً فلا بد أن تتحسب روسيا جيداً لمدى الخسائر التي ستتكبدها نتيجة دعم الاقتصاد المصري، وكذلك على مصر أن تتحسب أن العائدات الاقتصادية والسياسية إثر التعاون الروسي لا تمثل شيئاً مقارنة بالدعم العسكري والاقتصادي الأميركي. ونتيجة أخرى يشير إليها التقرير وهي أن روسيا لن تستطيع بكل ما ستقدمه لمصر من مساعدات أن تزعزع النفوذ الأميركي المطوق لمنطقة الشرق الأوسط مقابل ما ستقوم به أميركا من مواصلة الدعم واستعادة دورها الريادي المؤثر رداً لهيبتها وسمعتها الدولية التي يحاول القطب الروسي، وفي دهاء خفي، العبث بها وزحزحة سطوتها عن الدول الطائعة. وعلى ذلك تتجلى العديد من التساؤلات على غرار: لماذا لم تطرح روسيا من قبل برنامج دعم مصر اقتصادياً وعسكرياً وتعصمها من ويلات الشروط الأميركية؟ وهل استشعرت روسيا حرجاً إستراتيجياً بعد خفوت صوتها في المحيط الدولي لأكثر من عقدين، فآثرت العودة، لا سيما والمارد الأميركي تضعضع، فأرادت أن تتبوأ مكانها في لحظة خاصة من العقد الثاني لهذا القرن؟ وهل يمثل الدعم الروسي وقفة مع مصر ومن أجلها أم صفعة للعدو التاريخي؟ وهل كشف الموقف الأميركي عن خلل المنظومة السياسية داخله استدلالاً بالتوجهات المتناقضة إزاء مصر؟ وكيف يكون الوعيد السياسي لروسيا بأن دعم مصر سيكبد اقتصادها مالاً تطيقه بل لن يؤثر مطلقاً على النفوذ الأميركي المترسخ عبر العقود الخوالي؟ وهل اعتمدت مصر السياسة الأميركية كسياسة مناوئة للصالح المصري لا سيما بعد موقفها المزري من الثورة المصرية الرائدة وتصعيدها للنظام الإخواني الذي استخدمته كأفعل وسيلة تخريبية لدولة كمصر، التي سرعان ما اعتمدت في المقابل روسيا كحليف استراتيجي باعتبارها خصماً سياسياً يحظى بثقل دولي ويمثل رادعاً قوياً لجموح السياسة الأميركية في طور من أطوارها؟ وإلى ما تظل مصر هي مسرح خصب للصراعات الدولية والرهانات الكبرى وذريعة لتصفية الحسابات؟ وهل تقبل مصر منطق المساومات الرخيصة مهما مارس الغير نحوها من وسائل الجشع السياسي والإبتزاز الاستراتيجي أم تتحصن بمعطيات التاريخ والشرف الحضاري؟ وإلى أي مدى تملك أميركا الآن تقديم المساعدات الاقتصادية لأي دولة وهي أكبر مستدين في العالم؟ وإلى أي مدى أيضاً تملك أميركا قرارها السياسي وهي تعد مهددة من أطراف كثيرة بانهيار اقتصادي مروع؟ إن تغيير الهيكل المعرفي للسياسة الدولية، بما يحمله من مفاهيم سالبة بات ضرورة حيوية وأملاً مرجواً، وأن نبذ الأبعاد الإنسانية أصبح يعد جريمة كبرى في حق الحضارة المعاصرة... جريمة ستحصد جرائرها كافة الأطياف البشرية. لذا فعلينا أن نتعلم العيش معاً كأخوة أو الفناء معاً كأغبياء كما قال مارتن لوثر كنغ. * كاتب مصري