الموت حتم لازم على كل مخلوق ليس منه ملاذ ولا مهرب، وهذا حكم الله الذي لا معقب له ولا راد له، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، فالموت كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى وعُمِّر السنين، والسعادة لمن فكر في رُشد، ونطق في صدق، وعمل للموت في استقامة. بالأمس القريب غَيَّب الموت شيخاً جليلاً ورجلاً فاضلاً هو الشيخ - عبد الله بن عبد العزيز السويلم المستشار في الديوان الملكي سابقاً، وصلى عليه عصر يوم الخميس 10-6-1435هـ جمعٌ غفيرٌ من الناس يتقدمهم سمو أمير منطقة الرياض وسمو نائبه وجَمعٌ من العلماء والوجهاء وعامة الناس، عرفه القاصي والداني بما حباه الله من عقل كبير ورأي سديد، وفكر حصيف، ومعرفة بالناس وإنزالهم منازلهم، وقد كان يسعى في تفريج الكرب، وتسهيل الطريق على الناس وقضاء حوائجهم لدى ولاة الأمر من حكام آل سعود - أدام الله عزهم ورفع ذكرهم -، فانتقل من هذه الحياة الدنيا وترك لنفسه عمراً جديداً بما خَلَّفه من أخلاق ومواقف مشرفة ستبقى عالقة في الأذهان باقية في التاريخ، وذكراً حسناً له في هذه الحياة الدنيا ولسان صدق يذكره الناس به. لقد عرفت الشيخ عبد الله السويلم - رحمه الله - منذ زمن من خلال مجلس سمو ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز في قصره بالمعذر، حيث كان الشيخ يحضره كل اثنين غالباً وكنت أزوره في منزله في المناسبات وغيرها، وشجعني على زيارته رغبته الجادة وتواصله الدائم وسؤاله المستمر عن كل من يحبه، فيسّر الله لي زيارته كثيراً وتعلَّمت منه الشيء الكثير في الحياة من حسن الأخلاق ورجاحة العقل وسلامة المنطق والفوائد التاريخية عن أخبار الرياض وأهلها بخاصة ومناطق المملكة بعامة، فوجدت أن لديه كنزاً إخبارياً من المعلومات والأخبار والوقائع لا سيما وأنه من رجالات الدولة، فقد عاصرَ ملوك هذه الدولة المباركة (السعودية) ابتداءً بالمؤسس الملك الصالح - عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - وعاصر من بعده أبناءه الملوك إلى هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك - عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - وهو معهم في خدمة دينه ووطنه وولاة أمره، فكان ذراعاً معهم في العمل الجاد المثمر، وكان له الأثر الواضح في مسيرة حياته على المواطنين. واتصف - رحمه الله - بصفات عالية تُسجل له في تاريخ حياته، فقد كان ذا دين متين وثبات وكرم وسخاء وسماحة في الأخلاق وعلو في الهمة، يرى منه إخوانه وكل من يزوره التواضع الكبير من حسن اللقاء وبشاشة الوجه وطيب الحديث وعذوبة المنطق، ولذلك أحبه كل من عرفه وتعامل معه أو زاره في بيته. ومن صفاته أنه كان يتحامل على نفسه مع ما يعانيه من ألم ويجلس مع من يأتيه ولو كان فرداً واحداً سواء كان من أرحامه أو جيرانه أو أصدقائه أو محبيه ويُؤانس الجميع، ويسامرهم بحديثه الممتع العذب عن ما تنعم به البلاد من صحة العقيدة والأمن والاستقرار والاجتماع على الإسلام، وحديث عن تاريخ تأسيس هذه المملكة على يد الملك الصالح عبد العزيز بن عبد الرحمن، وما مرت به من مراحل وأطوار مع قلة ذات اليد وضعف المؤونة وشظف العيش، فأظهر الله هذه الدولة وأعزها وأكرمها بفضل من الله، ثم بجهود الملك عبد العزيز وأبنائه من بعده إلى هذا الوقت، وهو - رحمه الله - يُذكر بهذا على الدوام. ومن أجل الخصال والصفات التي تميزت بها مواقفه المشرفة مع قيادة هذا البلاد بالولاء الصادق والمحبة والتفاني في خدمة الناس في الأمور المسندة إليه وتسهيل أمورهم حينما يكلف بأمر من الأمور. وهذا من فضل الله عليه أن وفقه لهذه الأخلاق العالية والصفات السامية، ومحبة الناس له علامة على حب الله له، وهذه المحبة من الله سبقها عمل وسبب ونية صادقة مع الله، فلذلك جعل الله له في قلوب الناس محبه، كما قال الله عن أهل الإيمان والعمل الصالح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.. أي حباً في قلوب الناس، وقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحبه قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء قال: ثم يضع له القبول في الأرض).. ومعنى القبول في الأرض: أي محبة في قلوب أهل الدين والصلاح والخير له، والرضا به والسرور بلقائه واستطابة ذكره، وذلك لسلامة دينه وصلاح نيته ومحبته في إيصال الخير للناس. وقد رأيت ورأى غيري أولئك الناس الذين تقاطروا من كل مكان لتعزية أهل بيته في وفاته وتأثرهم بفراقه وذكرهم لمحاسنه ومواقفه، كل ذلك يدل على المحبة من الناس له وقد عج منزله - رحمه الله - بالناس وجاؤوا ليقدموا العزاء لأهل بيته، وألسنتهم تلهج بحسن ذكره والثناء عليه وطيب معشره وكرم مجلسه وبشاشة لقائه، وظهر التأثر عليهم لفراقه. وقد سعدت كثيراً حينما علمت أن دارة الملك عبد العزيز قامت بتسجيل تاريخ شفوي له عن حياته التي قضاها خدمة لدينه ووطنه وولاة أمره، أخبرني بذلك ابنه صاحب الأخلاق العالية والسمت الرفيع، معالي الشيخ محمد (أبو مشاري) وفقه الله تعالى، ولا ريب أن دارة الملك عبد العزيز ستحظى بنصيب وافر من المعلومات المهمة التي يحتاجها الأجيال الحاضرة والمقبلة لتعرف قدر وطنها وتاريخه المجيد ومكانة ولاة أمرها. والحمد لله الذي رزقه ذرية تدعو له وتستغفر له، وتقوم ببره ميتاً كما برَّته حياً أسال الله أن يفيض على قبره الرحمة والمغفرة وأن يرفع درجته عند ربه، وأن يجعله في الفردوس الأعلى من الجنة.