من المسلم به أنه «لا مشاحة في الاصطلاح» ولا سيما إذا كان الاصطلاح حمال أوجه ويحتمل أكثر من معنى، فبالتالي لا يجوز التحكم بالرأي ومصادرة رأي الآخر، فضلاً عن التكلف في لي عنق المعاني لأجل أن يتم توجيه المعنى والقصد لشيء معين محظور شرعاً، ولذا فالباحث العلمي الموضوعي لا يجزم بمعنى واحد وإنما يقول يحتمل المعنى كذا وكذا وإن كان القصد كذا فلا يجوز وإن كان القصد كذا فيجوز، لا أن يرجح معنى من المعاني ثم يلزم به غيره ويحرمه مطلقاً بلا دليل. وعليه فحديثي في هذا المقال لن يكون عن الجهة المختصة بالتشريع بين مجلسي الشورى والوزراء أو غيرهما؛ فهذه مسألة دستورية وقانونية وليست مسألة شرعية وفقهية؛ لأن التشريع في الإسلام على نوعين: فإن كان تشريعاً في شؤون الدين والثوابت كالحدود والعبادات ونحوهما فهو من الله تعالى ولا يجوز للبشر التدخل فيه، وإن كان في شؤون الدنيا والمتغيرات فهو من البشر حسب ما يحقق مصالحهم الدنيوية وبما لا يخالف الدين والثوابت، وبالتالي تصلح أمورهم الدينية بصلاح أمورهم الدنيوية. وإنما حديثي عن جواز إطلاق لفظ (المشرع) و(التشريع) على مجالس أو إدارات أو حتى أشخاص، بحيث نجد من يُحرِّم هذه المصطلحات بشكل متشدد وبكل تحكم ومصادرة، في حين أن المشرع والتشريع لا يتدخلان في الشؤون الدينية وإنما الدنيوية، ولا يلجان في الثوابت وإنما المتغيرات، وحسبنا الحديث المخرج عند مسلم عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصاً - تمراً رديئاً - فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». وقد بوب له النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال: (باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سيبل الرأي). وعليه فيجوز تشريع المخلوق فيما لم يشرعه الخالق وبما لا يخالفه، وهذا من مصالح حياتهم وهم أعلم بها. وبناء على ذلك فإن إطلاق مصطلح التشريع والمشرع هما فيما يجوز التشريع فيه، وبالتالي يجوز أن يقال: (السلطة التشريعية) ولا نحتاج إلى أن نقول: (السلطة التنظيمية)؛ لأن التنظيم يختلف عن التشريع الذي هو أشمل حتى من عبارة (التقنين)، وكذلك يجوز أن يقال: (المُشَرِّع) وهو ولي الأمر حينما يُشرّع ما فيه مصالح العباد والبلاد، ويجوز كذلك أن يقال (المجلس التشريعي) و(إدارة التشريع) وهكذا. وهناك فئات من الناس يحرمون ما يجهلون ويتكلفون بتحريم ما لم يحرمه الله، فتراه يحرم مصطلح (قانون)، ثم تراه يرضى بمصطلح (نظام) و(المُنظِّم) و(السلطة التنظيمية) ولكنه يأنف من مصطلح (قانون) و(المقنن) و(المُشرع)، وتراه يناكف ويناقض نفسه ويسيء الظن والفهم معاً، في حين أنك لو سألته من هو (الكريم) و(المحسن) وهكذا من أسماء الله تعالى وصفاته، لأجابك فوراً بقوله: إنه الله جلّ وعلا، ثم تراه في معرض مدحه لآخر يقول: (المحسن فلان) و(الكريم فلان)، بل وتراه يقول: (المحسن الكبير فلان الفلاني) و(الكريم السخي فلان الفلاني)، مع أن الله تعالى هو المحسن وهو الكبير وهو الكريم وهكذا، وإذا سألته كيف تقول هذا؟، إذا به يبرر بمبررات معقولة ومقبولة وهي من قبيل: أن الله هو صاحب الإحسان الإلهي المطلق وما سواه من الخلق فصاحب الإحسان البشري المقيد، وهكذا، وهذا صحيح، فتقول فلان كريم بصيغة التنكير، وتقول فلان الكريم بصيغة التعريف، ويجوز في (أل) التعريفية أن تكون بمعنى (العهدية) أي الكرم المعهود في الذهن، ويجوز كذلك أن تكون بمعنى (الجنسية) أي جنس الكرم ولكنه من جنس كرم البشر الناقص المقيد وليس من جنس كرم الخالق العظيم سبحانه وتعالى الكامل في كرمه والمطلق فيه. وبناء على ما تقدم فإن الذي أجاز لنا التفريق بين الخالق والمخلوق ولو توحدت الكلمة لأن المعنى والمقصود يختلف مع أنه في اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، فإن ما سواه من باب أولى كمصطلح التشريع والمشرع ونحوهما لأنه تشريع من جنس واختصاص تشريع البشر لدنياهم وليس من جنس التعدي على حق الله في شؤون دينه وثوابته جل وعلا، وهكذا في باقي المصطلحات التي لا يراد بها ما حرمه الله تعالى كمصطلح القانون، فليس هو القانون المفتئت به على الشريعة الإسلامية الغراء وإنما هو فيما سواها من مصالح البشر، بل إن الشريعة الإسلامية بأصولها وقواعدها ومقاصدها تقتضي وتستلزم تشريع القوانين المنظمة لمصالح الناس والمحققة لمناط العدل وإعمار الأرض. وختاماً: كم نحن بحاجة دوماً إلى التريث والتدبر والتأمل وعدم المسارعة في تحريم ما لم يحرمه الله فهذا هو الافتئات حقاً وليس من شرَّع للناس وقنن للمخلوقين مصالح دنياهم ليصلح دينهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.