×
محافظة المدينة المنورة

جامعة طيبة تحتفي مساء غداً بتخريج (669) من طلبتها في محافظة العلا

صورة الخبر

لا يمكن فهم دور المذهب المالكي في توحيد دول الغرب الإسلامي الكبير خلال العهد المرابطي دون العودة إلى الحقبة التي سبقتها. فقد شهدت المرحلة الإدريسية تدفقاً واسعاً للفقهاء المالكيين الأندلسيين والقيروانيين الذين وفدوا على مدينة فاس. وكانت فرصة أهتبلها المولى إدريس الثاني لاستقطابهم ورعايتهم، وفي هذه الفترة بالذات أي عهد المولى إدريس الثاني تم إدخال كتاب الموطأ إلى المغرب. كما كان لتأسيس جامع القرويين عام 245 كمركز إشعاع علمي وثقافي الفضل في تطوير وترسيخ دعائم وأركان المذهب وإعداد نخبة من العلماء خدموا المذهب تأصيلاً وتفريعاً وتنظيراً. فكان لذلك أثر عظيم في تعميم المذهب المالكي وذيوعه في أوساط المغاربة. وما كاد القرن الرابع الهجري يشرف على النهاية حتى كانت أصول المذهب وفروعه تعرف انسياباً في حياة الناس الدينية والاجتماعية، بل إن السلوك المذهبي المالكي قد أضحى لدى أبناء منطقة الغرب الإسلامي الكبير طريقة حياة ومنهج تفكير وطبيعة عمرانية واجتماعية وذلك بما تشكل عبر التاريخ من تفاعلات مرجعها أحكام المذهب التي رسمت نوعاً معيناً من التفكير ومنهجية محدّدة للحياة، وامتد كل ذلك عبر الأجيال إلى أن شكل ثقافة اجتماعية ونفسية عامة. ويبدو أن موقف الأدارسة المرن تجاه دخول المذهب المالكي جاء نتيجة الانفتاح والتسامح اللذين طبعا عهدهم وما نتج عن ذلك من تقارب وانفتاح على المذاهب الأخرى، كما جاء بمثابة موقف سياسي ضد المذاهب الخارجة عن المذهب السني الذي أخذ به الأمويون في الأندلس والأدارسة في المغرب، حيث من المعروف أن حكام العدوتين قد عملوا على ترسيخ المذهب المالكي ونشره. ولا ننسى أيضاً أن هجرة علماء تونس المالكيين إلى المغرب في بداية القرن الخامس الهجري قد ساهم بدوره في البروز الواضح للمذهب المالكي في دول الغرب الإسلامي الكبير. وفضلاً عن ذلك فإن فشل الإيديولوجيات والتيارات المذهبية الأخرى في نيل القبول وتأسيس مراكز نفوذ كبرى قد أفرز ظهور المذهب المالكي وبروزه بقوة. ولا شك أن جمع الناس على أمر واحد درءاً للفتنة وجمعاً للكلمة والشمل له سوابق في الثقافة الفقهية والسياسية الإسلامية منذ فجر الإسلام، حيث إن جمع الناس في مجتمع من المجتمعات تحت لواء واحد وتوجيه واحد وقيادة عامة تسوس أمور الناس وأمور ذلك المجتمع وفق نسق ورؤية تراعي المصلحة العامة ودرء المفاسد هو مما يساعد على تثبيت الأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي كما يساعد توحّد أفراد المجتمع حول المرجعيات الأساسية والكبرى وضمنها الدين الذي يعتبر في بلد كالمغرب من الأسس الفاعلة والموجهة للسياسة العامة للبلاد على مر التاريخ والعصور كما أن وحدة المذهب تجعل من الدين أداة مساعدة على توجيه المجتمع وصيانته من النزاعات. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن إمارة المؤمنين ووحدة المذهب مما يتميّز به المغرب كما أن التقيد بالمذهب الواحد أداة لتحقيق الأمن الروحي للبلاد. ولقد صار المذهب المالكي بالمغرب ثقافة اجتماعية تشكلت أولاً عبر التفاعل الفقهي في مجال التدين مما أعطى خصوصية حضارية للأمة المغربية بحيث أسهم إلى حد بعيد في تشكيل النفسية الاجتماعية في المجال الديني والاجتماعي العام للمواطن المغربي. وهكذا فإن مختلف الاعتبارات التي أدت إلى إقرار المذهب المالكي والتمسك به يقوم دليلاً واضحاً على أن اختيار المغاربة للمذهب المالكي كان عبارة عن قرار تاريخي حاسم اتخذه المغاربة اقتناعاً منهم بأنه أصلح المذاهب الفقهية لإقامة نظام قانوني وقضائي شامل ملائم للعقلية المغربية الواقعية. لقد اختار المغاربة منذ أربعة عشر قرناً المذهب المالكي مذهباً رسمياً للدولة المغربية، لذا ظل المذهب المالكي إلى يومنا هذا شعاراً من شعارات الدولة المغربية يعبّر عن الوحدة المذهبية الدينية والأصالة الحضارية وأسهم في بناء الشخصية المغربية بكل تجلياتها ومميزاتها. فدور المذهب المالكي في تجربة الوحدة المرابطية لدول الغرب الإسلامي الكبير يرجع الفضل في تثبيته إلى جهود أعلام المذهب المالكي الأوائل في المغرب، إذ هم الذين مهدوا لهذا الطريق إبان القرنين 4 و5 الهجريين، وتزخر كتب التراجم بذكر رواد فقهاء المالكية من أمثال دراس بن إسماعيل الذي كان أول من أدخل مدونة سحنون إلى فاس وأبي محمد الأصيلي وأبي عمران الفاسي، وقد تخرج على يد هذا الأخير الفقيه وجاج بن زلو اللمطي الذي أشرف على مشروع تاريخي مهم كان له أبرز الأثر في ذيوع المذهب المالكي بالمغرب ويتجلى الأمر في بنائه للمدرسة التي عرفت بدار المرابطين وخصصت لتلقين مبادئ المالكية، وقد شكلت هذه المدرسة نواة الدولة المرابطية ومنها تخرّج فقيه الدولة ومنظّرها عبد الله بن ياسين الذي قام بدور رئيسي في نشر المذهب وترسيخه. ومنذ دخول المرابطين للمغرب تحالف معهم هؤلاء الأعلام والفقهاء المالكيون مما أسهم في تعزيز الوحدة المرابطية لدول الغرب الإسلامي الكبير. وتنبغي الإشارة إلى أن من عوامل بروز صحوة مالكية بالمغرب إبان العهد المرابطي كون المذهب المالكي أكثر المذاهب ملاءمة للمرابطين الذين عرفوا بطابعهم الصحراوي وميلهم الفطري إلى البساطة والقدرة على التكيّف مما جعل المذهب أيضاً ملائماً للمغاربة المعروفين بالميل إلى السهولة والمرونة. ولقد سعى المرابطون إلى جعل المذهب المالكي محور حركتهم الإصلاحية وعملوا جهدهم من أجل مقاومة وإفشال التيارات الأخرى وبذلك أصبح المذهب المالكي مرتبطاً أشد ما يكون الارتباط بالدولة التي استطاعت من خلال هذه التجربة المرابطية أن تجمع شتات دول الغرب الإسلامي الكبير وتوحيد كلمتهم مما كان له أكبر الأثر في نشر الأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي والتنمية الشاملة.... ومؤخراً بمدينة الدار البيضاء كان لي شرف إعطاء محاضرة افتتاحية لفعاليات الدورة العشرين للمعرض الدولي للكتاب والنشر بمشاركة العديد من الدول، وكانت المحاضرة في موضوع العلاقات الإستراتيجية بين المغرب وإفريقيا: التجليات والآفاق. واستقبل المعرض المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، (إكواس) والمكونة من 15 بلدًا، كضيف شرف لدورته العشرين... ذكرت في محاضرتي زيادة على ما ذكر في بداية المقالة أن المملكة المغربية تتقاسم مع القارة الإفريقية، والتي تمثّل امتدادها الطبيعي وعمقها الإستراتيجي، روابط حضارية عريقة وعلاقات إنسانية وجغرافية أيضاً. وقد كان المغرب دائماً صلة وصل بين أوروبا وإفريقيا، فهو الذي نشر الإسلام في منطقة الساحل جنوب الصحراء عن طريق المذهب المالكي وعن طريق الزوايا والجمعيات الدينية. فالمملكة المغربية ظلت أرض الاستسقاء والتزوّد والإرواء الروحي، وقبلة لتكوين العلماء الأفارقة، وصدر المغرب نموذجاً دينياً وسطياً معتدلاً مبنياً على ركائز مقبولة عند الخاص والعام، وانتشر المذهب المالكي في العديد من الأمصار والأقطار الإفريقية، كما تأثرت الدول الإفريقية بالكتابة العربية والرسم بالخط المغربي؛ كما أن مؤلفات العلماء المغاربة عرفت قبولاً في الصدور والأفئدة ورواجاً لا يوصف..... ولتأكيد هاته العلاقة الوطيدة كان المرحوم الحسن الثاني دائماً ما يستعمل صورة مجازية عن العلاقة التاريخية بين المغرب وإفريقيا واصفاً المملكة على أنها شجرة تمتد جذورها في إفريقيا وأغصانها ترفرف عالياً في أوروبا.