محمد صالح الدسوقي الشهير بـ(البارون) شاب سوداني لم يبلغ الـ(25) من عمره، ومع ذلك أصبح رجل الساعة بلا منازع وسبب صدمة هائلة وسط علماء الدين والمجتمع، وذلك بعد أن تقدم بعريضة أمام محكمة بالعاصمة الخرطوم تطالب بتغيير ديانته من مسلم إلى (لا ديني) .. وأدخل الحكومة السودانية في حرج بالغ، ما اضطرها إلى فتح بلاغ في مواجهته بتهمة الردة، وتحولت مطالبته إلى قضية رأي عام، لدرجة أن منظمات حقوقية وشبابية أعلنت تضامنها ودعمها للشاب الذي أخرج الدعوة إلى الإلحاد بجراءة من السر إلى العلن. ما جعل قضية (البارون) تأخذ منحى سياسيا هو تزامنها مع مطالب بتعديلات دستورية تسمح بحرية الاعتقاد وعدم قتل المرتد، وهى التعديلات التي رفضتها هيئة علماء السودان والمجلس التشريعي.امتحان المهلة المثير في الأمر أن القاضي رفض طلب الشاب لانتفاء صفة الاختصاص، وتم اصدار أمر باعتقاله، وقدم لمحاكمة وصلت عقوبتها إلى الإعدام. هنا صعدت القضية إلى مسرح الأضواء المكشوفة، وتحفزت المنظمات والسفارات الأجنبية لرصد تطوراتها، تحديداً وأن الخرطوم تخضع لرقابة ومُهلة أمريكية في شهورها الأخيرة قبل رفع العقوبات عنها بصورة نهائية. بالطبع فإن الحكومة السودانية لا يمكن أن تغامر بإعدام شاب يحظى بتعاطف المنظمات الغربية، ولا تريد أن تتورط في إدانات خارجية وتسقط في امتحان المهلة الممنوحة لها، فلجأت إلى حيلة لم تكن في الحسبان، حيث شطبت النيابة البلاغ في مواجهة الشاب، وقالت إنه مريض نفسياً وتم إدارجه في برنامج الإرشاد الطبي، وبتلك النهاية الدرامية تعاملت الحكومة مع الأزمة على طريقة (يا دار ما دخلك شر) . كما يبدو أنها اتعظت من تجارب مماثلة، أشهرها قضية السودانية (مريم يحيى) والتي هى الأخرى تم الزج بها في السجن بتهمة تغيير ديانتها الإسلامية في العام (2014)، وكان من المفترض أن ينفذ فيها حكم الإعدام بعد أن تضع مولودها، وظلت حبيسة السجن لأشهر، إلا أن ضغوطات أمريكية وأوربية نجحت في اطلاق سراحها، ومغادرتها البلاد وتأمين لجوء سياسي لها . بخلاف أن الحكومة السودانية تتمسك بقوانين لا تستطيع تطبيقها على أرض الواقع، فإن الدعوات الإلحادية وسط الشباب اتسعت في السنوات الأخيرة بصورة لافتة، وبعد أن كانت تصدُر خجولة في منتديات مغلقة على مواقع الإنترنت، عبرت عن نفسها مؤخراً في الفضاء المفتوح، وأصبح (الفيسبوك) و(تويتر) وأحياناً بعض المنتديات الثقافية ميادين لتجنيد الشباب، والتشويش على أفكارهم، لدرجة أن الحملة الإلحادية نفسها انتقلت من خانة الدفاع إلى تجريد حملة تبشيرية تتلبس لبوس القيم الإنسانية والفلسفية، ودخلت مرحلة الجهاد الإلكتروني عن طريق سب الإسلام والنبي محمد صلي الله وسلم، والتشكيك في القرآن، ومهاجمة المسلمين وأحيانا السخرية من العبادات والشعائر، فبدأ الإلحاد وكأنه ديانة منافسة، لكنه - ويا للمفارقة - يحتفي بالتعاليم المسيحية، ولا يجرؤ على نقدها، ما جعل الشكوك تطال المجموعات الملحدة، بأنها مجرد ستار لديانة أخرى .لا دينيون في الواقع يصعب حصر الملحدين السودانيين بالأرقام، رغم أنه لم يعد لديهم الجرأة على القول بأنهم ملحدون وحسب، إنما يستميتون في الدفاع عن موقفهم من الدين. مجموعة (سودانيون لا دينيون) (الصدفة والعدم) (أصوات حرة) ومنتديات أخرى بخلفيات علمانية، أو تحمل أسماء شيوخ افتراضيين تحاول أن تقدم عبرهم صورة شائهة للإسلام لحمل الناس على الهجوم عليه، وأشهر الكُتب التي صدرت تعبر عن تلك المجموعة كتاب (المسلمون الجدد ) للروائي هشام آدم و( نبوة محمد .. الصناعة والتاريخ) للدكتور محمد محمود أستاذ الأديان المقارنة، والذي هاجر هو الأخر واستقر في الغرب، كذلك هشام آدم أشهر الكتاب السودانيين الملحدين . لم تنته القضية إلى صراع فكري، وإنما انتفض آلاف السودانيين لجمع توقيعات تطالب إدارة الفيسبوك بإغلاق صفحات الملحدين السودانيين والتي بات شغلها الشاغل استفزاز مشاعر المسلمين والسخرية منهم، أكثر من الدفاع عن فكرتها، وعندما لم تستجب إدارة الفيسبوك لطلب المنادين بإغلاق الصفحات المفتوحة، أنشأ المعترضون صفحة موازية وأطلقوا عليها اسم (سودانيون مؤمنون بالله)؛ لكنها لم تفلح في كبح الدعوات الإلحادية، كما أن الظلال السياسة كانت حاضرة في رفض سيرة الأحزاب الدينية، بينما الأسماء التي تدير مجموعات (الفيسبوك) ليست معروفة وغالباً هى اسماء حركية باستثناءات قليلة معظمها لم يخف رغبته في الحصول على لجوء سياسي، بعد أن تدهورت الأوضاع المعيشية والسياسية في السودان .موضة بلا مواربة يمكننا القول أن الإلحاد لم يعد مجر د نشاط ذهني، أو قناعات فلسفية وإنما تحول إلى (موضة) وسط الشباب، خصوصاً الذين تترواح أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين، كما أنه لم يجرؤ حزب سياسي على إشهار مساندته للإلحاد، بما في ذلك الحزب الشيوعي السوداني، الذي تلتزم عضويته بالشعائر الدينية ولم تشذ عن ذلك، بل ظل الحزب الشيوعي يطالب بضرورة إبعاد الدين عن الصراع السياسي، لا عن الحياة .! إلا أنه بعد انقلاب الإنقاذ في يونيو/حزيران 1989 تبنت الحكومة ما أسمته بالمشروع الحضاري، وحاولت تطبيق نموذج للشريعة الإسلامية، لم يعجب الكثيرين، خاصة الشباب المقبلين على الحياة، فكان لابد للأجيال الجديدة أن تشق لنفسها طريقا، فى ظل غياب القدوة والنموذج، والتبست عليها المصادر الصحيحة للإسلام، ما ترك المجال متاحاً لنقد التجربة الإنقاذية، والنفاذ منها إلى تجارب أخرى، حيث تفوح رائحة الخصومة السياسية، أكثر من التمسك بالإلحاد كرفض مطلق للدين، والذي يصعب تماماً أن يجد له أرضية خصبة في المجتمع السوداني ويتحول إلى تيار عريض، لكنه يمكن أن يتنامى إلى ظاهرة مزعجة .