ربما يتعذر الحديث عن أمر واحد تطورت المملكة خلاله في عهد الملك عبد الله، فالعهد مليء بالإنجازات السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وربما يكفي المملكة فخرا حفاظها على استقرارها الداخلي وسط بيئة إقليمية تموج بالتوتر والصراع، وهو ما انعكس على ارتفاع معدلات تطورها الاقتصادي الذي لم تعصف به عواصف الأزمات السياسية التي أدت لانهياره كما حدث مع العديد من الدول المجاورة لها، وقد تجسد التطور الاقتصادي في العديد من الإنجازات الاقتصادية لعل أهمها الصعود المتنامي له وميزانياتها العملاقة وانضمامها لمجموعة العشرين وصمودها في وجه الأزمة المالية العاصفة عام 2008 وارتفاع مستوى معيشة المواطن وازدياد رفاهيته بطريقة ملحوظة، ولم يقتصر الأمر على تأمين الاستقرار السياسي ودفع عجلة التنمية الاقتصادية بقوة؛ إذ شرع الملك عبد الله في إصلاح البنية الاجتماعية للمجتمع السعودي وضخ دماء جديدة في عروقه من خلال إصلاحاته اللافتة لأوضاع المرأة السعودية التي تبوأت مناصب رفيعة غير مسبوقة في عهده، وتطوير نظام القضاء ليحظى بدرجات أعلى من الكفاءة والاستقلالية. غير أن هناك قطاعا أولى له الملك عبد الله أهمية قصوى ومنحه اهتمامه الخاص، وربما نجده جديرا بأن نفرد له السطور القليلة القادمة، حيث يمثل البنية التحتية اللازمة لأي مجتمع متقدم، وهذا القطاع هو القطاع التعليمي، ومن خلاله يتم بناء فرد متعلم واع يمثل مشروع كادر وطني مثقف، ومصدرا من مصادر ثروة الدولة التي لا يمكن تعويضها بأي حال، ومن خلاله تنخرط المملكة في السوق التنافسي العالمي مسلحة بكوادرها البشرية الكفء، وتلقائيا يتحول المواطن من عبء على كاهل الدولة يتوخى عليها رعايته ودعمه إلى أداة إنتاج قوية وفاعلة وواعية، تسهم من خلال تبنيها لمفهوم المواطنة الصحيح في تحمل واجباتها ومسؤولياتها على أكمل وجه. بدأت مسيرة تطوير التعليم -أو بالأحرى- بنائه في المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إبان جهوده في بناء الدولة، غير أنها اكتسبت ملامح متطورة جديدة مع تولي كل ملك من الملوك الخمسة السابقين عن الملك عبدالله، وإن كان الملك عبد العزيز هو موحد ومؤسس الدولة السعودية، فإن الملك عبد الله هو باني مؤسسات الدولة السعودية الحديثة، ففي عهده بلغ عدد الجامعات الحكومية والأهلية 40 جامعة، وتم تدشين استراتيجية لتطوير التعليم العام يتحقق منها أهداف عديدة أهمها إدراج اقتصاد المعرفة في المناهج الدراسية ضمن الاقتصادات المعروفة والتي يتم تدريسها على نطاق واسع، والتي تشتمل بطبيعة الحال على رؤية واعية لما يجب أن يكون عليه الطلاب في المملكة، وكيفية بناء مدارس تحقق هذا الهدف، وتصميم مناهج تساعد الطلاب على تحقيقه، وكل ذلك من خلال تناغم منظومة الطالب والمدرسة والمنهج، دون إغفال للحقائب التدريبية التي يتم تصميمها وتطويرها وإلحاق أكبر عدد ممكن من المدرسين بها، لرفع كفاءتهم المهنية وتطوير خدماتهم التعليمية. نال الملك عبد الله لقب شخصية العام الثقافية التي تقدمها جائزة الشيخ زايد بالإمارات لعام 2014، وقال المسؤولون عن تقديم الجائزة إن اختيار الملك عبد الله هو تشريف لها، وهي نوع من الاعتراف الصريح بجهوده الحثيثة في بناء صرح تعليمي ثقافي بالمملكة، مجسدة في مظاهر عديدة أهمها تأسيس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية «كاوست» والمخصصة فقط لإجراء الأبحاث والدراسات العليا في مجالات علوم الأرض والعلوم الحيوية والرياضيات والهندسة الفيزيائية والكيميائية وغيرها، وتمثل أكبر مدينة جامعية على مستوى العالم كله، وتحوي أحد أكبر الحواسيب العملاقة في العالم كله وأسرعها في منطقة الشرق الأوسط. لاشك أن بناء القاعدة التعليمية في أي دولة -شأنها كشأن أي بناء تحتي- يستغرق وقتا وجهدا مضنيين، لأن بناء الأساس دوما ما يمهد للبناء فوقه بسهولة ويسر، فإن كان الأساس قويا ومتينا فإنه يسهل كثيرا البناء فوقه، والمملكة تمضي قدما بلا تعثر في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في القطاع التعليمي والتي هدفت لأمور عديدة أهمها توفير التعليم المجاني للجميع، كما هدفت لإتاحة فرض تعليم متساوية لكلا الجنسين وخفض نسبة الأمية بين الرجال والنساء. لم يقتصر لقب شخصية العام الثقافية على مبادرات الملك عبد الله لتطوير التعليم العام وبناء جامعات بحثية علمية فحسب، فقد امتدت الجائزة لكامل البناء التعليمي والثقافي الذي يرعاه الملك عبد الله بجهد حثيث، ويدعمه تأسيسه لمركز الملك عبد الله لحوار الأديان، وجائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة، وكلها نماذج إن دلت على شيء فإنما تدل على وعي عميق بالتحديات المستقبلية التي تواجه هذا الوطن، وإدراك كامل للحلول الجوهرية التي تؤصل لخطط تنموية على الصعيدين القريب والبعيد لمواجهة تلك التحديات بجدارة وكفاءة ملائمة، وتجسيد حي للمقولة الخالدة التي قيلت عن التعليم، وهي «إن الهدف الأسمى للتعليم .. هو تحويل المرايا.. إلى نوافذ».