تنتهي الأيام الوردية (الأربعين) لموسم الورد الطائفي؛ مع نهاية شهر أبريل الحالي، لتبدأ مرحلة ذبول الشجرة وجفافها، ثم الكمون الطويل إلى بداية الموسم القادم في أواخر شهر مارس. هذه حالة ينفرد بها (الورد الجوري الطائفي)، الذي لا يزهر إلا مرة واحدة في العام، في حين أن عشرات الأنواع من أنواع الورد المعروف على مستوى العالم، يخضر ويزهر طيلة أيام العام. هذه - ربما - ضريبة في مقابل تفرُّد ورد الطائف بـ (العطر الوردي - الدهن)، الذي تعطيه زهوره فجر كل يوم طيلة الأيام الأربعين، ولا تعطيه بقية زهور أنواع الورد الأخرى، حتى لو أعطت ريح الورد المعروف. ) يبدو أن العرب عرفوا الورد وعطره المقطر منذ أزمنة بعيدة، خصوصاً أهل الشمال منهم فيما بين فارس والروم، ويذكر التراث العربي؛ أن الفيلسوف العربي الشهير الكندي، الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، هو أول من وصف عملية استخلاص دهن الورد بالتقطير، وهي العملية المتبعة اليوم في صناعة عطر الورد الطائفي. * أما كيف دخلت شجرة الورد (الجوري) إلى الطائف..؟ فيُذكر أن أحد حكام مكة قبل أكثر من مئتي عام تقريباً، تلقى هدية من حاكم دمشق أو السلطان العثماني آنذاك، عبارة عن حزم من أعواد شجر الورد الجوري، الذي وصل إلى الشام وتركيا من فارس منذ مئات السنين، فبعث بها حاكم مكة إلى الطائف عندما سأل عن الأجواء المناسبة لاستزراعها، فزرعت ونجحت، ومع مرور الوقت، تفوق الورد الطائفي حتى على التركي، فعطر الورد الطائفي ليس له مثيل في العالم كله بشهادة خبراء في هذه الصناعة، وهذا عائد إلى عوامل أربعة: (التربة، والماء، ودرجة الحرارة، والندى)، وحتى في الطائف نفسه، فإن الجودة تتفاوت من مكان إلى آخر، فورد الهدا يختلف عن ورد الشفا، وورد المعالي في الهدا، يختلف عن ورد وادي المحرم وهو جزء من الهدا. * وفي السنوات الأخيرة؛ أصبحت هذه الصناعة الوردية العطرية مهددة بالانقراض، وذلك بسبب شح مياه الآبار التي توفر أهم عامل لتكوين الدهن العطري في الوردة، فالماء المجلوب من غير تربة زراعة الورد، لا تعطي الجودة والكمية المتوخاة من الورد، ولا توفر التميز الذي اشتهر به الورد الطائفي عالمياً، وهذه مشكلة تواجه المزارعين في حقول الورد، فهم بين شح المياه، وإغراق الأسواق بعطور ورد مغشوشة مكشوفة لمن يعرف الدهن الوردي الجيد من الرديء. * دخل الورد تاريخ وثقافة المجتمع الطائفي منذ عشرات الأعوام، وما زال يُشكّل لبنة قوية في السلوك الحضاري لهذا المجتمع، فقد أصبح له مكان في المنطوق الشعري وبخاصة المغنى منه، وظهرت ملامحه على عادات الناس في اللبس والضيافة والإهداء، وصارت له سمة اقتصادية حرفية لا تقل أهمية عن سمة فواكه الطائف الشهيرة، مثل العنب، والرمان، والمشمش، والحماط، على سبيل المثال. * وإذا تجاوزنا ذكر الورد الطائفي في الكثير من القصائد الشعرية العربية، والأخرى المغناة، ووصلنا إلى مكانته في الفن الشعبي الموروث منه على وجه خاص، فنحن أمام ثقافة خاصة بمجتمع يمتهن زراعة الورد وصناعة عطر الورد، ويُعبّر عن علاقته بهذه الشجرة، بكثير من الحب والشجن الذي لا يتكرر في مكان آخر. * دخلَ الورد في غنائيات الطائف الشعبية، وفي أشهرها وأخصها وهو المجرور الطائفي: سألتك الله يا باهي السنا عن حمرة الخد.. خدك من الورد.. ولا الورد من وجنات خدك ومنه: يا ورد زاهي على الأغصان ريحك زين طابي وأنا قلبي الشقي يا ورد على لاماك تعبان * ومن غنائيات النساء في تثريب العروس قولهن: عريسنا جانا من الزرع فرحان يا عمته.. يا طيبة.. رحبي به يا عمته.. بالورد رشي ثيابه ) مَن مِن عشاق الورد؛ ومن اللاهثين وراء عطره وطيبه، يعرف المعاناة التي تبدأ بزرع العقلة في موسم الغرس، إلى أن يصبح دهن الورد وعطره في قناني (تولات) براقة جميلة تعرض في الأسواق..؟ * يعرف مزارعو ورد الطائف، أن شجرة الورد تعمر 20 عاماً، وتنتج في العام الواحد 3000 وردة في المتوسط، وأن وردها يجب أن يقطف وقت السحر إلى بعيد شروق الشمس، لأن الدهن العطري يتبخر مع الضوء..! * جزء من معاناة القطف والجني في مزارع الورد في هذه الفترة، يُعبِّر عنه شاعر الملعبة في فن (يلِه يلِه)، فكل وردة محاطة بأشواك تدمي الأيدي، وتشقق الثياب، وفي آخر المطاف، تذهب الوردات إلى قدور الطبخ والتقطير..! ويبقى قاطف الورد مع حسراته، حتى إنه لا يحصل ربما؛ على وردات يتغرز بها بعد هذا الجهد الجهيد. يقول: يا لطيف.. يا لطيف الورد شقق ثيابي لا غرازة منه ولا حصل لي سلامة..!!