الذين يطرحون هذا السؤال ويجندون له الدراسات والبحوث والاستطلاعات، يخلصون إلى أن ممارسة الكتابة ــ بشكلها العفوي أو المقصود ــ كفعل الحياة، أي أنها تختلف من شخص لآخر، من تجربة لأخرى، ومن رؤية إلى سواها. فكما يعيش كل منا حياته بطريقة مختلفة عن الآخر، يكون لكل كاتب أو مدون أو معبر طريقته الخاصة وهدفه الخاص من وراء هذه الكتابة. ربما هو نفسه لا يعلمه، ولكنه يمارسه لا وعيا حاضرا ومؤثرا. ولذلك فمسألة التراتب الزمني هي ما تفصل بين الكتابة ــ كفعل ــ والجدوى المتوقعة منها كرد فعل. نكتب؟ لتنزاح الغيوم عن الأفق، ليحتك القلب بما فيه، لنخلد زهرة ونفاوض الغبار بالمطر. نكتب؟ لنركب موجة هائجة.. متحررة ومغرية ومكتظة بالحياة، نصل معها إلى أعلى مستوى عن البحر، ونكتب أيضا لنتعلم كيف نقفز من هذه الموجة عندما تلفظ أنفاسها إلى أخرى.. في الوقت المناسب وبالقدم الأنسب. نكتب؟ لنشفى.. من الجروح والتقيحات والصديد، لنعرض قلوبنا للهواء والشمس والمطر.. نكتب لننفجر حروفا بدلا من أن يصبح أحدنا دملا محتقنا. يقال إن الكتابة رحلة استكشاف للنفس، وغوصٍ إلى الداخل، ليتعرف الشخص لا على أسلوبه ورؤيته للحياة، بل ليتعرف على نفسه التي يكتشف أنه لم يعرفها أصلا، وأنه كان يعيش بالجزء الخطأ منها. وأنها بهذا التوجه فعل استكمالي وامتداد لفعل الحواس الخمس إن سلمنا افتراضا بالكتابة كحاسة. آخرون يقولون إن الكتابة فعل تطهير وطقوس روحانية ومراسم تحرر.. وأن ما نكتبه ونعترف به على هيئة لغة هو جزء منزاح من إحساسنا بالثقل والخطيئة. هؤلاء يصلون أحيانا إلى حد إحراق ما يكتبون أملا بوفرة تحرر وتخفف وغفران. البعض يؤمن بالتشافي بالحرف، بتحويل المخبوء المجرد إلى مادة لغوية محسوسة، وبدلا من أن تكون كرة تتدحرج من أعلى الحلق إلى أسفل المعدة، تصبح بفعل التدوين كومة صوف متكورة على البياض. يمكن معالجتها والتخلص منها أو تحويلها إلى خيوط صالحة لاستعمال آخر، كالنشر والوصول للآخر ــ على سبيل المثال، والبعض من هؤلاء يصلون بهذه النظرية حد العلاج الجسدي، فالصداع ينزاح بالكتابة، والضيق ــ كما يعبر الكثيرــ يخف بالفضفضة، باعتبارها شكلا من أشكال البوح والتعبير. آخرون يجدون في الكتابة حبة أسبرين عندما يستعصي النوم أو يستفحل الأرق، وهي بهذا المفهوم عملية طوارئ أو إنقاذ ما يمكن! في كتابه «التداوي بالكتابة» يقول الدكتور بين بيكر Pennebaker أستاذ علم النفس بجامعة تكساس إن الكتابة عن الثورات العاطفية التي تحدث للإنسان تساعده في الشفاء من الاضطرابات الناشئة عن الصدمة، وهو يرى أن «تهيج المشاعر» ــ على حد توصيفه ــ لا تكتفي في آثارها السلبية على ناحية العواطف فحسب، فالطلاق وفقدان الوظيفة أو موت شخص عزيز ومقرب ــ على سبيل المثال ــ ىتؤثر على كل ما له علاقة بنا، كالاستقرار المادي، وعلاقتنا بالآخرين ونظرتنا لأنفسنا ولما حولنا ورؤيتنا عن الحياة والموت. وبذلك، فالكتابة تساعدنا على الإحاطة بالتجربة وتنظيمها في سلوك الطريق... يتبع.