دخلت تركيا مرحلة جديدة بعد تصويت الناخبين لصالح التعديلات الدستورية، التي نقلت البلاد من مرحلة النظام البرلماني التنفيذي إلى مرحلة النظام الرئاسي الواسع الصلاحيات، معلنة تدشين الجمهورية التركية الثانية. ولذلك لم تكن دونَ دلالاتٍ رمزيةٍ الزياراتُ التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -في اليوم التالي للاستفتاء- لكل من السلطانيين العثمانيين محمد الفاتح وياووز سليم، والرئيس الأسبق تورغت أوزال، ورئيسيْ الوزراء الأسبقين عدنان مندريس ونجم الدين أربكان. وقد بدأ أردغان جولته بزيارة ضريح السلطان محمد الثاني الذي لُقب بـ"الفاتح"، بعد أن فتح القسطنطينية عام 1453م فتحولت إلى إسطنبول الحالية، مسطراً نهاية عهد الإمبراطورية البيزنطية ومدشناً عهد الإمبراطورية العثمانية، وهذا لا يعني أن التاريخ يكرر نفسه بقدر ما يشير إلى لحظات تشابه لها رمزيتها الخاصة ودلالاتها المؤثرة. خسارة المعارضةعكست نتيجة الاستفتاء (51.41% مؤيدة مقابل 48.59% معارضة) الانقسام الحاصل في المجتمع التركي منذ سنوات عديدة، وأظهرت مدى وعمق أزمة أحزاب المعارضة التركية التي تعيش حالاً مستمرة من التراجع والاضطراب، إذ لم تتمكن من إقناع الناخب التركي بوجهة نظرها الرافضة للتعديلات الدستورية، وتمحورت نقاط رفضها لها حول: 1- رفضها منذ البداية أي حديثٍ عن التعديلات الدستورية باعتبارها محاولة من الرئيس أردوغان لزيادة نفوذه وسيطرته على الحكم، وتحويل النظام الجمهوري إلى نظام دكتاتوري، بل إن زعيم حزب الشعب الجمهوريكمال كليتشدار أوغلو اعتبر أن مناقشة التعديلات الدستورية هي إهانة "للشهداء الذين دافعوا عن الديمقراطية"، وضحوا بأرواحهم خلال تصديهم لمحاولة الانقلاب الفاشلة، التي جرت في الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016."عكست نتيجة الاستفتاء (51.41% مؤيدة مقابل 48.59% معارضة) الانقسام الحاصل في المجتمع التركي منذ سنوات عديدة، وأظهرت مدى وعمق أزمة أحزاب المعارضة التركية التي تعيش حالاً مستمرة من التراجع والاضطراب، إذ لم تتمكن من إقناع الناخب التركي بوجهة نظرها الرافضة للتعديلات الدستورية" أما حزب الشعوب الديمقراطي -الذي تقبع مظم قياداته داخل السجن بتهم دعم ومساندة منظمة إرهابية- فأعلن أنه ليس معنيا بتمرير ما سماها "سياسات أردوغان الهادفة إلى تغيير نظام الحكم الجمهوري التركي"، وتوعد -في أكثر من مناسبة- بعدم السماح لحزب العدالة والتنمية بالمساس بالدستور التركي. 2- اختصار التعديلات الدستورية -التي تضمنت 18 مادة- في مسألة تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، مع التركيز على شخص الرئيس أردوغان، وعلى طموحه في الاستئثار بالسلطة والتخطيط للبقاء في كرسي الرئاسة حتى عام 2029. 3- تصوير التصويت لصالح التعديلات على أنه بمثابة بداية مرحلة من إثارة القلاقل والتوتر في تركيا، إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي بسبب احتكار حزب العدالة والتنمية العملية السياسية. 4- انتهاج "فقه النكاية" القائم على معارضة أي شيء يصدر عن الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، وليس على طرح برامج وخطط وإستراتيجيات خاصة تقنع المواطن التركي. وفي المقابل، جادل حزب العدالة والتنمية بأن الدستور التركي الحالي تمت صياغته عام 1982 بعد انقلاب 1980الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين، وقد جرت تعديلات عديدة عليه أبرزها تعديلات عام 2007 التي عُرضت على الاستفتاء، وحظيت بموافقة الشعب بنسبة 68.95%. وتضمنت تلك التعديلات إعطاء الحق للشعب في اختيار الرئيس، الذي كان قبلها ينتخبه أعضاء البرلمان، وأتاحت للرئيس أن يترشح لدورتين فقط، إضافة إلى إجراء انتخابات برلمانية كل أربع سنوات بدلًا من خمس. واعتبر قادة حزب العدالة والتنمية أن التعديلات الحالية جزء من مسيرة الإصلاح التي بدأها الحزب منذ وصوله إلى الحكم، واعتمد الحزب إستراتيجية تنهض على عرض التعديلات بوصفها ضرورية للقطع مع عهد الحكومات الائتلافية، التي أدت إلى عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؛ حيث جرى -منذ عام 1961 وحتى 2002- تشكيل 33 حكومة كان متوسط فترة حكمها 18 شهرا. ورأى الحزب أن الوصول إلى النظام الرئاسي في تركيا سيعطي دفعة قوية لإتمام مشاريع رؤية عام 2023، التي تهدف إلى مشروع "تركيا الجديدة"، والأهم من ذلك هو إسدال الستار بشكل نهائي على حقبة زمنية طويلة من تاريخ الصراع بين الحكم المدني والمؤسسة العسكرية. ويشير المشهد السياسي للمعارضة التركية -منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين- إلى ضعفها وانقسامها، وعدم وجود شخصية كاريزمية فيها قادرة على حشد جمهور الأتراك ليلتف حولها، لذلك لجأت أحزاب المعارضة إلى الانتماءات ما قبل المدنية من مذهبية وعرقية، بسبب ضعف قدرة الإقناع لديها وعدم طرحها خيارات بديلة مقنعة. المدن والأريافغير أن نتيجة الاستفتاء الدستوري أظهرت أن ثمة انقساما عموديا في المجتمع التركي، وانقساما آخر بين المدن الكبرى والأرياف، إذ صوتت المدن الكبرى ضد التعديلات في حين صوتت المدن الصغيرة والأرياف لصالحها، واعتُبِر مفاجئاً تصويت مدن مثل إسطنبول وأنقرةوأنطالياوأضنةومرسين، لأنها لم تخذل حزب العدالة والتنمية في جميع الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها."لعل دلالة تصويت المدن الكبرى ضد التعديلات الدستورية وتصويت المناطق الريفية لصالحها، تذهب إلى ضرورة دراسة أوضاع أبناء المدن الذين تأثروا بتراجع أعمالهم وقلة فرص العمل، وبارتفاع تكاليف المعيشة في مدن متقدمة صناعياً وتجارياً وثقافياً" وفي المقابل؛ كان مفاجئاً أيضاً تصويت أربع ولايات ذات غالبية كردية لصالح التعديلات، الأمر الذي عكس رفض أبناء هذه الولايات ممارسات وسياسات حزب العمال الكردستاني (PKK)، وتراجع شعبية حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) في المناطق الجنوبية والشرقية من تركيا. ويبدو أن المدن الكبرى -التي تختزن أكبر نسبة من الطبقة الوسطى التركية- لم تكن موافقة على دخول تركيا مرحلة النظام الرئاسي خوفاً من تركيز السلطات في يد شخص الرئيس، إذ يجادل بعض مصوتيها بأنهم يعرفون أردوغان جيداً، لكن إذا غاب أردوغان وجاء شخص آخر وانفرد بالسلطة.. فما العمل حينئذ؟ وهذا رغم أن التعديلات تمنح البرلمان الحق في إقالة الرئيس ومحاكمته، في حال موافقة ثلاثة أخماس نواب البرلمان على ذلك عبر اقتراع سري. ولعل دلالة تصويت المدن الكبرى ضد التعديلات الدستورية وتصويت المناطق الريفية لصالحها، تذهب إلى ضرورة دراسة أوضاع أبناء المدن الذين تأثروا بتراجع أعمالهم وقلة فرص العمل، وبارتفاع تكاليف المعيشة في مدن متقدمة صناعياً وتجارياً وثقافياً، والتمعن في دلالات تصويت أبناء الأرياف التركية بكثافة لصالح التعديلات، وما يعنيه ذلك من انقسام جلي بين مجتمعات المدن ومجتمعات الأرياف. الآفاق المستقبليةلا شك في أن القيادة الحاكمة ستأخذ بعين الاعتبار تقارب نسب المؤيدين والرافضين للتعديلات الدستورية، لأنها تشير إلى أن واحداً من كل اثنين من الذين استُفتوا أعلن رفضه للتعديلات، الأمر الذي يُظهر عدم وجود توافق مجتمعي على التعديلات بشكل عام، والنظام الرئاسي بشكل خاص. وربما يكون ذلك بسبب أنها مُرّرت تحت قبة البرلمان بتفاهم حزبيْ العدالة والتنمية والحركة القومية، والذي ظهر أنه تفاهم هش نظراً لأن قسماً هاماً من قواعد هذين الحزبين رفض التصويت لصالح التعديلات الدستورية، وخاصة حزب الحركة القومية. إذ تشير تقارير إلى أن نسبة 80% من قواعد الحزب صوتت ضدها، كما أن مشروع التعديلات قدم إلى البرلمان لمناقشته تحت سريان حالة الطوارئ."خيارات حزب العدالة والتنمية الحاكم تبدو محدودة من أجل إدخال التعديلات الدستورية حيز التنفيذ قبل موعد انتخابات 2019، وهناك مؤشرات على أن الحزب قد لا يلجأ إلى انتخابات مبكرة لتحقيق ذلك، بل إلى خطوات تصب في صالح ذلك" ويبدو أن خيارات حزب العدالة والتنمية الحاكم تبدو محدودة من أجل إدخال التعديلات الدستورية حيز التنفيذ قبل موعد انتخابات 2019، وهناك مؤشرات على أن الحزب قد لا يلجأ إلى انتخابات مبكرة لتحقيق ذلك، بل إلى خطوات تصب في صالح ذلك. وأولى الخطوات هي الدعوة إلى عقد مؤتمر استثنائي لحزب العدالة والتنمية في 21 من مايو/أيار المقبل، وانتخاب أردوغان رئيساً للحزب ثم الشروع في توسيع صلاحياته التشريعية، بما فيها إصدار بعض المراسيم والتعميمات التي ستمتلك قوة القانون وتصبح نافذة ما لم يعترض عليها البرلمان التركي. ولعل الأهم هو البدء في إعادة هيكلة حزب العدالة والتنمية، ولملمة الصفوف تحضيراً للدخول في المرحلة الجديدة، والنظر في سجلات قادته ومدى التزامهم بتوصيات الحزب وسياساته وخططه. ويبقى أن هناك ترقبا لمجمل الخطوات التي سيتخذها الرئيس أردوغان، إلى جانب انتظار التغيرات التي سترافق ذلك، والنظر في آثارها على نظام الحكم في الجمهورية التركية الثانية.