أضاف ابن عربي مدينة أخرى إلى خريطة المدن التي جابها خلال ترحاله «الأرضي» الطويل، هي أبوظبي التي يحتفي به معرضها الدولي للكتاب بصفته الشخصية المكرمة لهذه السنة. وفي أبو ظبي أيضاً أُعلن فوز صاحب «الفتوحات المكية» بجائزة البوكر العربية من خلال رواية «موت صغير» للكاتب السعودي محمد حسن علوان وهي بمثابة سيرة له واقعية ومتخيلة، يحلّ فيها في موقع الراوي و «البطل». إنها لمصادفة جميلة حقاً أن يعيد هذان الحدثان، المعرض والجائزة، شخصية ابن عربي (1165-1240) إلى المعترك الثقافي الراهن، هو الذي لا يزال أصلاً، شاغل أهل الفلسفة والصوفية والفقه، والشخصية «الإشكالية» المتفردة التي ما برحت مثار اختلاف لا نهاية له. ابن عربي هو في معرض أبوظبي، الغائب الحاضر، اسمه يتردد في الجلسات الصغيرة واللقاءات التي تدور حوله، ومقولته الشهيرة «الحب موت صغير» التي استعارتها الرواية الفائزة، يتبادلها القرّاء قبل أن يكتشفوا صاحبها. وإن كان محمد حسن علوان جريئاً في اختيار «الشيخ الأكبر» شخصية روائية، وفي جعله «بطلاً» في زمن الأصوليات الظلامية، فالمعرض كان جريئاً كل الجرأة في تكريم «بحر الحقائق» وهي إحدى كنايات صاحب «فصوص الحكم»، وفي عقد ندوات حول فكره ومساره الصوفي، معلناً خروج ابن عربي من الحلقة الضيقة أو النخبوية إلى الأفق المفتوح. فهذا «البحر الزاخر» كما يكنى أيضاً، لا تزال تلاحقه التهم التي كيلت له سابقاً والتي لم تتمكن من النيل منه. ويذكر الكثيرون كيف دعا مرة أحد نواب مجلس الشعب المصري إلى مصادرة «الفتوحات المكية» في مصر فازداد الإقبال عليها وسقطت كل مزاعم المصادرة المغرضة. وصدرت في القاهرة أخيراً طبعة جديدة من «الفتوحات» هي أقرب إلى القارئ من الأولى أو الكلاسيكية التي أنجزها يحيى عثمان، في تبويبها وفهرستها وفي الهوامش التي لا بد منها. رحل ابن عربي قبل 777 عاماً في دمشق، لكنّ أعماله لم يكتمل نشرها حتى الآن، ويقال إن له مخطوطات كثيرة تنتظر من يكتشفها ويصدرها في كتب. وأحصى له الباحثون نحو أربعمئة كتاب، لكنّ هذا الرقم ليس ثابتاً، ما يؤكد حال الفوضى التي تكتنف مؤلفاته. ولكن يكفي ما ظهر له من كتب وفي مقدمها «الفتوحات المكية»، هذه الملحمة الموسوعية، الصوفية والفلسفية التي تناهز الأربعة آلاف صفحة، وكان صرف لها ثلاثين سنة تأليفاً. ناهيك عن «فصوص الحكم» و «الوصايا» و «الرسائل» و «ترجمان الأشواق» الذي يضم ما كتب من شعر. ويصادف القارئ الباحث عن ابن عربي في المكتبات كتيبات كثيرة له طبعت من دون مقدمات ولا شروح، وهذا ما يزيد من ارتباك قراءته الصعبة أصلاً والتي تتطلب جهداً وتبصراً وأناة وتأويلاً. فالمعاني لديه -كما يقال- تكمن خلف المعاني، واللغة المشبعة رموزاً ومجازات لا تمنح مفاتيحها بسهولة. ويمكن القول إن الذين تمكنوا من قراءة ابن عربي كاملاً هم قلة، وجلهم من البحاثة الذين تصدوا لتراثه من خلال ما توافر من كتبه. ويظل ابن عربي أشبه بـ «الأوقيانوس» الذي لم تُسبر أعماقه كلها ولا يزال ينتظر مغامرين آخرين يغوصون فيه أو عليه. كان ابن عربي الأندلسي، يسعى، كما قال، إلى «أن يبلغ كلامي المغرب والمشرق»، وكما سلك في سفره الطويل بلدان المشرق والمغرب، بلغ كلامه الجهات كلها ووصل أيضاً العالم الغربي بعدما اكتشفه مستشرقون ونقلوه إلى لغات عالمية شتى. وما كتب عنه باللغات الأجنبية يضاهي ما كتب بالعربية. وقد يكون ترحال ابن عربي «الأرضي» أو «السفلي» كما يسميه، صورة رمزية عن ترحاله بين الإنساني المتناهي والإلهي غير المتناهي. فالسفر لديه يرتسم بين اتجاهات ثلاثة: السفر من والسفر إلى والسفر في. أمضى ابن عربي الذي ولد في مرسية حياته يجوب بلداناً ومدناً عدة: المغرب والحجاز واليمن وتركيا والعراق ومصر وفلسطين... ثم استقر في دمشق من غير أن ينقطع عن الحج إلى مكة. وفي هذا التجواب التقى شخصيات وحكماء ومتصوفة وشعراء وحكاماً... وكان التقى في قرطبة الفيلسوف الكبير ابن رشد الداعي إلى التوفيق بين الدين والفلسفة. وقد يسأل سائل: كيف أمكن ابن عربي أن يكتب ما لا يُحصى من صفحات خلال هذا التجوال الطويل؟ وقد يكون صاحب «ترجمان الأشواق» خير من أجاب على مثل هذا السؤال وسواه ولو مداورة، حين قال: «ما ثم سكون أصلاً، بل الحركة دائمة في الدنيا ليلاً ونهاراً، ويتعاقبان فتتعاقب الأفكار والحالات والهيئات بتعاقبهما». ويؤكد في قول آخر فكرة السكون المتحرك أو الحركة الساكنة: «لمّا كان الوجود مبدأه على الحركة لم يتمكن من أن يكون فيه سكون... فلا يزال السفر أبداً في العالم العلوي والسفلي»، أي في الأرضي والإلهي، في المتناهي واللامتناهي. ما أحوجنا حقاً إلى قراءة ابن عربي وإعادة قراءته ثم قراءته. هذا «الأوقيانوس» لا بداية له ولا نهاية.