مهاب نصر | بخلاف ما يشاع عادة منذ عقود عن تراجع نسب القراءة في العالم العربي خصوصا وغيره عموما، ثم مؤخرا من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الألكترونية على اقتناء الكتاب، واعتبارها تهديدا يوشك أن يسحبه إلى عالم الذكرى، بخلاف ذلك كله يبدو الكتاب خلال العقد الأخير، خاصة في حال من الرواج غير مسبوق. ولا أدل على ذلك من تنامي عدد دور النشر، ومن دخول غير المختصين إلى عالم إنتاجه ونشره وتوزيعه. كتاب ومثقفون عديدون يدخلون هذا الميدان، لا على سبيل التطوع، وإنما كمشروع تجاري، وإن امتاز بقدر من الخصوصية من حيث القيمة المفترضة للمطبوع. الواقع يقول ان وسائل التواصل والمواقع المختلفة قد اسهمت في الترويج للكتاب ومؤلفه. الأعداد الغفيرة التي تتردد يوميا على هذه المواقع تمثل زبائن جددا من متابعي الكاتب. رواد المواقع أيضا الذين يعبرون عن آرائهم في الكتب التي قرؤوها يسهمون بقدر كبير في التعريف بها وإدارة النقاش حولها، وهو ما تقصر عنه دور النشر التي ما زالت تعتمد طرقا بدائية في الترويج لأعمالها، ثم تشكو من بعد من قلة التوزيع وندرة المبيع. ظواهر الرواج لا أدل على ذلك من ظاهرة حفلات التوقيع التي تشهد أحيانا أعدادا غفيرة لم يعرفها الكتاب في عهود أخرى، وعدد الطبعات المثبتة على اغلفة بعض الكتب المنشورة والتي تصل إلى عشرات الطبعات، وهو ما لم يكن يحلم به أكبر كتاب العالم العربي قاطبة. لكن هذه الظاهرة قد لا تنجو من سلبيات. فالملاحظ أن رواد المواقع ووسائل التواصل تتحرك ذائقتهم وفقا لشركة كتاب «البوستات» والتعليقات. وليس شرطا أن يكون هؤلاء على درجة عالية من الثقافية تؤهلهم للحكم على هذه المطبوعة أو تلك. إنهم يعتمدون على إثارة متابعيهم غالبا من خلال تعليقات قصيرة ذكية لاتخلو من إبداع، ومن خلال ذلك يؤثرون أبلغ الأثر في ذائقتهم واتجاه ميولهم للقراءة. هؤلاء يمثلون الآن أخطر موجهي الرأي العام، الذي يتنقل بين صفحاتهم ويلتف حول بعضهم في صورة «حشد». تهديد آخر لسنا إذن مهددون بتراجع نسب المقروء، ولا بأزمة في توزيع الكتاب، كما كان الحال منذ عقدين على سبيل المثال، بل نحن أمام تهديد من نوع آخر هو «قراءة الحشود»، إنها قراءة تتبع قوة الدعاية، والكتاب المروّج له، بغض النظر عن الاختيار الشخصي، وعن القيمة بالطبع. ظاهرة الالتفات أيضا إلى الكتب الفائزة بجوائز، خاصة الأدبية منها، تشي بأمر شبيه، هو خضوع الذائقة، لا لفائدة المتحصلة من الكتاب، بل لحال الإقبال عليه بسبب الشهرة، وتوقع أن تكون القيمة مرادفة للدعاية أو للجائزة. الناتج قد لا يبدو من هذه الجهة مبشرا. فنحن أمام نوع من القراءة يتسم بالعشوائية، والاحتشاد الوقتي. تُقرأ الكتب بخفة وتسرع، ويتم الحكم عليها وفقا لهوى أو لرواج عارض. ولا تخضع للتأمل والتمحيص الواجبين، ولا تكاد غالبا تترك إلا الأثر الوقتي سريع الزوال، الذي تتسم به كل الكتابات على صفحات التواصل الاجتماعي. قراءة تبدو كأنها ضد ما يتسم، أو يفترض أن يتسم به الكتاب من كحال من التدوين المنظم للأفكار والإبداعات التي دونت من أجل أن تبقى. بعيداً عن ثقافة الجموع يحتاج الكتاب مع حال الترويج شيئا آخر لا يقل جوهرية، ولم يكن موضوعا في الحساب بالطبع قبل الهجمة الألكترونية الطاغية، التي أوجدت مساحات للحشد والتأثير في توجهات الرأي العام. يحتاج الكتاب إلى رديف أكثر رصانة وخصوصية يتمثل في النقاد والمتابعين المختصين، يحتاج بالمثل الى وعي فردي عال من قبل القارئ، يحتاج الى خروج على ثقافة الحشد، وعدم الخضوع للرأي المتسرع والظرفي. الكتاب الآن قد لا يكون مهددا، كما كانت الحال من قبل، من جهة مواقع التواصل بتراجع توزيعه ومقروءيته، بل مهدد بالخفة والعابرية. ستكون الأفكار والإبداعات عندئذ حالا من النشوة الوقتية، لا من التأمل، واستخلاص الفائدة، ناهيك عن التراكم المعرفي الذي يعد أهم سمة تميز المعرفة الموثقة المدونة.