يتابع د. الدوسري حديثه عن العلاقة بين التجار وحكام الكويت فيقول إن طبقة التجار قد نشأت مع نشأة الكويت "وظل أفرادها يحافظون على موقعهم داخل التركيبة الاجتماعية يشاركون السلطة في جميع ما يخص الإمارة ثم الدولة، فمرة مع الحكومة إذا كانت التشريعات والقوانين تصب في مصلحتهم، ومرة ضدها إذا كانت تلك القوانين والتشريعات لا تتفق مع مصالحهم ونفوذهم وتجارتهم". وقد تظهر هذه الفقرة جوانب سلبية وانتهازية في سلوكهم، غير أن د. الدوسري يبين في الفقرة اللاحقة أن هناك "عوامل ساهمت في تميز تجار الكويت واكتسابهم ثروات كبيرة قبل ظهور البترول، وهي مهارتهم وذكاؤهم وحسن تقديرهم للعمل التجاري". ولم تكن تجارة اللولؤ المورد الوحيد لثروة التجار كما يوضح، "فـقد كان جزء من تجارتهم قبل الاستقلال يعتمد على تجارة التهريب والاستيراد ثم التصدير للمنطقة المجاورة". ويرسم د. الدوسري مراحل تدهور العلاقة بين التجار والأسرة من أواخر القرن 19 حتى حركة 1921 الإصلاحية، فيقول: "تحمل التجار طوال تاريخهم الذي يوازي تاريخ الأسرة الحاكمة مسؤولية المحافظة على تقاليد التجارة، وعلى مركزهم المتقدم في المجتمع، وبعد ذلك في البرلمان الكويتي، من خلال علاقة خاصة عبر السنوات بين الأسرة الحاكمة وعائلات كبار التجار على شكل اتفاقات غير رسمية بينهما، ففي الوقت الذي بذل آل الصباح كل مهاراتهم وقوتهم حتى تظل الكويت آمنة ومستقلة، اعترف التجار الذين سمح لهم مواصلة نشاطهم التجاري بقيادة آل الصباح لهم، بل قدموا لهم المساهمات المالية من الأرباح التي كانوا يحصلون عليها من التجارة". ويضيف د. الدوسري: "وفي تلك الفترة التي نشأت فيها العلاقات والاتفاقيات غير المكتوبة بين آل الصباح والتجار، حقق التجار ثراء كبيرا على عكس آل الصباح الذين شغلتهم شؤون الحكم في ذلك الوقت عن العمل بالتجارة، ولكن منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ الموقف يتغير، حيث اقتربت وتوطدت علاقة الكويت بالإدارة العثمانية في العراق، ونتيجة لذلك امتلك آل الصباح حدائق من النخيل في منطقة الفاو، والتي درت على آل الصباح دخلاً خاصاً بهم قلل من الاعتماد على المساهمات المالية التي يقدمها لهم وجهاء القوم من التجار، وهنا أخذت الروابط بين الأسرة الحاكمة والتجار تقل خلال فترة الشيخ محمد الصباح (1892-1896م) وفي عهد الشيخ مبارك الصباح (1896-1915م) وبسبب فرضه ضرائب كثيرة على الأهالي لتنفيذ طموحاته العسكرية، ساءت العلاقة بين الحاكم والتجار، حتى إن عدداً منهم ضاق ذرعا بسياساته الضريبية فغادروا البلاد، مما حدا بالشيخ مبارك إلى مراضاتهم وإغرائهم للعودة إلى الكويت، لكن الفجوة بينهم أصبحت أحد ملامح الحياة السياسية في الكويت في ذلك الحين". ما عناصر قوة التجار، وكيف تفاعلت مع الأوضاع لاحقا؟ يقول: "تعتبر فئة التجار عنصرا مهما في المجتمع الكويتي لأنهم كانوا يملكون المال، بل تأتي في المرتبة الأولى من حيث القوة وفي أقوى فترات حكم آل الصباح في عهد الشيخ مبارك كان صوت التجار مسموعا، حيث كان دورهم بارزا في المطالبة بالشورى والديمقراطية قبل الاستقلال وبعده، فقد حرصوا على أن يقفوا بجانب المطالبين بمبدأ المشاركة والديمقراطية، وبعد وفاة الشيخ سالم الصباح عام 1921م قدم التجار لآل الصباح شروطهم للموافقة على الحاكم الجديد من خلال ميثاق مكتوب حُدد فيه شروط الحاكم الجديد، وكيفية إدارة البلد، وأن الشرط الأول لهذه الحركة هو اتباع مبدأ الشورى في اختيار الأمير ودعوة عدد من المواطنين لانتخاب مجلس الشورى، هذه الشروط قبلها الشيخ أحمد الجابر قبل أن يكون حاكما". ومع تطور البلاد خلال العشرينيات والثلاثينيات 1920- 1930 احتفظ التجار بدورهم الريادي في المجال السياسي بعد أن ازداد "انتشار السياسة بين الناس" مع ظهور اللؤلؤ الصناعي وقيام شركة نفط الكويت باكتشاف البترول وانتشار الصحف والإذاعة وقضية فلسطين. نتيجة لهذا كله، يقول د. الدوسري، "كان التجار هم من يقوم بتلك الأعمال من المطالبات بقيام الديمقراطية إلى الدفاع عن القضايا القومية، وبذلك أصبحت مجموعة التجار التي تهتم بالعمل السياسي هي نواة حركة المعارضة التي أخذت قوتها في النمو حتى أجبرت الحاكم على إقامة مجلسي 1938 و1939م، كما يذكر للتجار أنهم منحوا التعليم والصحة جهودا كبيرة وأنفقوا عليها من أموالهم الخاصة، من خلال إنشاء بعض المدارس والمراكز الصحية والاجتماعية قبل ظهور النفط وبعده، كما يذكر للتجار أنهم طوال تاريخ الكويت، وفي أهم المراحل، حرصوا على التحدث بصوت عال ومسموع، حيث كانت هناك مطالبات من كبار التجار لتشكيل مجالس تشاورية وتشريعية". لم يكن دور التجار في تشكيل المجتمع الكويتي اقتصاديا بحتا مهما كانت درجة الاعتماد على الضرائب المفروضة، فهناك جانب آخر أوسع من الاقتصاد نراه في كتاب "المجتمع العربي بالكويت" لعبدالعزيز حسين، حيث يقول ص91: "كان من نتائج اعتماد الكويتيين على التجارة والملاحة في تأمين حياتهم أن اكتسبوا تفتحا ذهنيا واستعدادا خاصا لتقبل كل جديد مفيد، كما صاروا واقعيين في معالجة أمورهم وممارسة أعمالهم، فلا يذهب بأحدهم الخيال حتى يغيب عن أرض الحقيقة، ولا يتطوح وراء الأماني العراض حتى تنقطع صلته بالواقع، وأصبح قياسهم للأشياء بمقدار ما تؤديه من منفعة أو ضرر مادي، فقلّ بينهم التعصب الديني والتحزب المذهبي". يشير د. الدوسري إلى تأثير امتلاك بساتين النخيل في العراق "التي درت على آل الصباح دخلا خاصا بهم قلل من الاعتماد على المساهمات التي يقدمها لهم التجار". أما د. غانم النجار فيرى للعراق آنذاك دورا أوسع في تعزيز حركة المجلس عام 1938 سياسيا واقتصاديا، فيقول إن النظام العراقي في زمن حكم "الملك غازي"، 1933-1939، كان يمثل كبلد وكنموذج للحياة، مثالا يقتدى للتطور والتقدم، وبالتالي "كان الكويتيون يعتبرون العراق مثالا جيدا للإدارة الحكومية الحديثة التي يتمنون تطبيقها لديهم". (ص20). وتبدو مثل هذه الإشارة والإشادة اليوم صعبة التصديق بعد أن جرى في العراق ما جرى ومشى التاريخ في اتجاه آخر، ويورد د. النجار ثلاثة جوانب من مؤثرات "العامل العراقي". لماذا أبرز هذا الدور العراقي، وما أسباب قوته؟ يقول د. النجار: "1- كان غالبية المتعلمين الكويتيين- على قلتهم- قد أتموا تعليمهم في العراق، مما يجعلهم كلمة بارزة في المجتمع الكويتي يساهمون في الدفع باتجاه العراق من حيث نظم التعليم، والنظام الحكومي ككل، وبالتأكيد فإن تأثير الفئة المتعلمة قليلة العدد في مجتمع متخلف تنتشر فيه الأمية لهو تأثير له وزنه الذي لا يجب الاستهانة به. 2 - يمتلك العديد من التجار والأسرة الحاكمة بساتين كبيرة للتمر في البصرة بشكل خاص والعراق بشكل عام، وقد كان اعتماد الكثير من هؤلاء الملاك على محاصيل تلك البساتين كبيرا. وهكذا يتضح لنا بأن الفئات الاجتماعية ذات النفوذ الأعلى في البلاد لها صلات اقتصادية بالعراق، وبالتالي تأثير ما يحدث في العراق يكون مباشرا عليها. 3 - لعبت الصحافة العراقية دورا بارزا ومؤثرا في انتقادها للنظام الحاكم في الكويت مع التركيز على الشيخ أحمد الجابر، كما قامت بنشر الكثير من آراء ووجهات نظر كتلة الشباب الوطني إزاء الأوضاع المتردية في الكويت، ويكفي أن نقول إن برنامج الكتلة الإصلاحي نشر أول ما نشر في صحيفة تصدر في البصرة تدعى صحيفة الزمان". كما ساهم الموقف المتهور للملك في تأجيج الموقف "من خلال إيوائه لمجموعات الشباب الكويتي المناهض لحكومته" (ص 22). واحتوى "البرنامج الإصلاحي" الذي نشرته الكتلة في صحيفة "الزمان" التي تصدر بالبصرة في 3 أبريل 1938 قبل نحو ثمانين عاما، المطالب الآتية: "أولا: ضرورة فتح المدارس على أوسع نطاق لإعطاء أفراد الشعب فرص التعليم مثل غيرهم من المواطنين في البلاد العربية الأخرى. ثانيا: إقامة مستشفى على نفقة الحكومة حتى لا يلجأ الناس إلى مستشفى الإرسالية الأميركية الموجودة لأغراض خاصة. ثالثا: تنظيم حالة البلاد الاقتصادية ونفقاتها ودخلها وتحسين أحوالها في كل النواحي. رابعا: إغلاق أبواب الكويت في وجه اللاجئين الأجانب الذين لا تربطهم أي علاقات مع الوطن الكويتي. خامسا: السماح المطلق للعرب بزيارة الكويت وعدم منع أي عربي من ذلك مهما كانت الأحوال، واتخاذ الإجراءات لإزالة سوء التفاهم مع الجارات العربيات بهذا الخصوص. سادسا: أن يكون الأمير على اتصال بكل طبقات شعبه، وأن يسمح بسماع شكاواهم، ويوجه شؤونهم على أساس مرضٍ. سابعا: إن شعب الكويت يرغب في أن يتعاون بلده مع العراق لتحقيق أهداف المشروعات الإصلاحية ولتحسينها على أساس علمي وثقافي وتجاري وجغرافي". سنرى في المقال القادم بعض جوانب تأثير النفط والاقتصاد الكويتي الجديد على مختلف القوى، وكذلك في "نشوء الطبقة الوسطى".