يسرد الروائي روبين غاليغو، المولود في روسيا في 1968 من أم إسبانية وأب فنزويلي، في روايته «بالأبيض على الأسود»، سيرته التي تجمع بين الغرابة والمشقة والعناد والإصرار والتشبث بالحياة والأمل. (ترجمة ناصر محمد الكندري، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت). تبدأ الحكاية حين صور مخرج إسباني جوانب من حياة روبين وبحثه عن أمه التي التقى بها حين بلغ الثالثة والثلاثين من عمره، وانتقل للعيش برفقتها إلى مدريد. ثم تكون العودة إلى تفاصيل الحياة الماضية التي تعج بالمفارقات التي تتضافر لتشكل لوحة حياته عبر قصص مستقاة من واقعه، تعبر كل واحدة منها عن مرحلة أو حالة أو شخص مر بحياته وخلف ذكرى أو حجز موقعاً له في الذاكرة. تتعدد الألوان وتكثر الشخصيات. روبين حفيد إيغناسو غاليغو الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الإسباني، أصيبَ منذ ولادته بشلل الأطفال الدماغي، وحين بلغ عاماً ونصف العام تدهورت صحته وأخبروا أمه أنه مات. في حين أنه عاش بعد ذلك حياته متنقلاً بين مؤسسات مختلفة للمعاقين في جحيم موسكو. تخرج في كليتَي اللغة الإنكليزية والحقوق في مدينة نوفوجيرسك، تزوج مرتين وأنجب ابنتين. حكاية كتابة الرواية بحد ذاتها تصلح لتكون رواية فريدة، ولا سيما أن روبين يعاني قسوة الحياة ويبحث عن السعادة المنشودة التي يكاد يقطع أي أمل بالعثور عليها أو مصادفتها. فالطفل اليتيم الذي تربى في دور الأطفال، وانتقل من مصح إلى آخر، تعرض لكثير من الأذى، وكانت مأساته مركبة لأنه لا يستطيع الاعتماد على نفسه في شيء، وفي طور الطفولة المتأخرة كان الزحف وسيلته للتحرك، ولم يعدم الذكاء لاكتشاف محيطه والتفاعل مع رفاقه المعاقين والتكيف مع حالاتهم ومحاولة استغلال ما هو متيسر لهم. يقسم روبين روايته إلى فصول، يحمل كل منها عنواناً مختلفاً، يبدو كقصة قصيرة في حلقة الرواية، ويختصر محطة من محطات الحياة، أو يلم بتفاصيل عن شخصية مرت به أو كان لها تأثير عليه، سواء من الأصدقاء أو المعلمين أو الحاضنات أو غيرهم ممن صادفهم في رحلته الطويلة نحو شاطئ الأمان. يتداخل الأنا فيما يحكيه مع الآخر، يكون التداخل تعبيراً عن تمازج ألوان الحياة وصنوف المسرات الصغيرة والعذابات المديدة، يقدم ذلك بسلاسة ومن دون مبالغة أو تضخيم. ويكون استهلاله بـ «البطل»، تعبيراً عن البطولة التي وجد نفسه عليها مصادفة، واستمر وصمد في وجه تيارات الإهمال الجارفة التي أودت بالكثيرين في دائرة التنقلات التي لم تكن تنتهي إلا بالقبر، بالنسبة للمعاقين من أمثاله. يختار روبين البطولة، لا لقوته أو فرادته أو تميزه، بل لأنه لم يجد مخرجاً آخر ليكمل حياته. يختار الحديث عن أبطال راحلين، يصفهم بنوع من الشوق والإعجاب، يصف مشاعر الناس المتباينة تجاه المعاقين، كما يصف نبذه ونفوره من شعور الشفقة الذي يظل يقابَل به، ويسعى ليؤكد لغيره ولنفسه أن المعاق يستطيع التميز في بعض المجالات التي لا يستطيع كثير من الأصحاء جسدياً النجاح فيها أو خوضها. يصف روبين صدماته المتتالية في حياته، وطريقة تعافيه من تلك الصدمات بإرادته وتحديه، يصف المناطق التي انتقل إليها، بالتزامن مع الأشخاص الذين مروا به، وتكون له زيارات كثيرة إلى عدة مناطق يكتشف عبرها العالم ورحابته، يستمتع بجمال الحياة مع الأسرة، يحقق البنوة التي هربت منه والأبوة التي لم يكن يحلم بها. ويصف التربية المغالطة التي كان يتم تلقينها للأطفال في الاتحاد السوفياتي وحالة الإنكار الدائم للظروف والوقائع وإلقاء تهَم التخلف والجهل والعداء على الآخرين، وبخاصة أميركا والدول الأوروبية، حيث يتم تجريع تلك التعليمات للأطفال كوصايا واجبة، وتربيتهم على عداء الآخر ليجدوا أنفسهم مبغضين لهم بحكم التربية والتعليم. لوحة حياة روبين تكون مزيجاً من ألوان القهر والمعاناة، تنهض الألوان المألوفة عنده بأدوار تختلف عن أدوارها المعتادة والصفات الدارجة عنها. يعتبر أن الحياة عبارة عن مراحل بيضاء وسوداء تتبدل بنوع من التعاقب، النجاح يتناوب مع خيبة الأمل، كل شيء يتغير. ويبوح ببغضه للون الأبيض الذي يصفه بأنه لون العجز والقضاء المحتوم، لون سقف المستشفى والشراشف البيضاء. في حين أن اللون الأسود يرمز لديه إلى النضال والأمل، وهو لون السماء ليلاً، وخلفية أكيدة وواضحة للأحلام، وقفات زمنية بين فترات لانهائية، لون الأحلام والخرافة، لون العالم الداخلي للجفون المغلقة، لون الحرية، وهو اللون الذي يختاره لعربته الكهربائية. ويعتقد أن حروفه السوداء على الخلفية البيضاء هي آخر ما يبقى له حين يكمل مساره، وحين توضَع النقطة في آخر صفحة من حياته. يصف روبين حالات التعجيز والإهانة التي لقيها. كما يصف جوانب من الخطة المعتمدة لأمثاله من قبل الحكومة السوفياتية، تلك الخطة التي كانت منحصرة في عزلهم عن العالم الخارجي، وترقب موتهم، أو دفعهم إلى النهاية عبر الإهمال، من دون أن يعني ذلك تعديماً للخير وسط ذلك التخطيط، بل كان يتصادف وجود خيرين يجاهدون لترقية المعاقين وتخليصهم من قيود الإعاقة وإطلاقهم إلى قلب العالم كي يعيشوا حياتهم ويناضلوا في سبيل تحقيق طموحاتهم. يذكر روبين أنه حين تعرف إلى أمه أدرك ضرورة الكتابة ليشرح للعالم من هو. كما يذكر أن لديه سبباً شخصياً آخر للكتابة، وهو متعلق بمسألة الوعي بالذات والطاقات والإمكانات، وأن عليه التخلص من الجحيم الذي يسكنه بالكتابة. حيث الكتابة أحد الإمكانات للحفاظ على النفس كشخصية، وفي حالته تكون إمكانات الاختلاط مع العالم الخارجي محدودة، فيضطر إلى التواصل عبر الكتابة كوسيلة للتعبير عن همومه وهواجسه وشخصيته ومعاناته. إذ يجد أن أفضل طريقة للاختلاط وأقربها إليه هو الاختلاط عبر الكلمة والنص، ويصف الناس الذين يعبرون عن علاقتهم بالعالم بوساطة الحروف بأنهم أناس نصيون. يعترف غاليغو بأنه لم يخطط ليصبح كاتباً، وحتى لم يحلم بذلك، وأن كل ما حققه في روسيا هو الإمكانية المحدودة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وأن الكتابة انطلقت عنده من رغبته بالحديث عما رآه وعايشه. وأنه عندما زالت الضرورة من أجل البقاء حياً في روسيا، تقبل بوعي فكرة مرضه غير القابل للشفاء، وبدأ يكيف نفسه معه، ويتصرف وفق ما يتيحه له من هامش بسيط في الحياة، أراد أن يوسع ذاك الهامش بالكتابة، ولم يستسلم لفكرة ترقب الموت أو الهرب إليه.