صحيفة المرصد- هافينغتون بوست عربي : جريمة وقعت قبل 3300 عام بدأت تتكشف خيوطها اليوم، فقد ظهرت أدلةٌ تشير لطريقة اغتيال رجل الثلج الشهير، الذي اكتُشفت جثته في جبال إيطاليا، والتي أثارت فضول العلماء في مجالات عدة منذ اكتشافها، في 19 سبتمبر/أيلول 1991. المومياء عَثَر عليها متسلقان ألمانيان مجمَّدة، على ارتفاع ثلاثة آلاف و210 أمتار، وكانت الجثة في حالة جيدة جعلت الشرطة تظن أنها حديثة العهد، ففتحت تحقيقاً بالأمر، حسبما ورد في تقرير نشرته فرانس 24. خيوط الجريمة اكتشفها بعد ذلك بسنوات محققٌ ألماني يدعى ألكسندر هورن، يعمل في شرطة مدينة ميونيخ الألمانية، بعد أن اتصلت مديرة أحد المتاحف الإيطالية الصغيرة به وسألته سؤالاً غريباً: هل سبق لك التحقيق في قضايا “باردة” من قبل. فأجابها المحقق ألكسندر قائلاً: “نعم”. فقالت أنجليكا فليكنجر، مديرة متحف جنوب تيرول للآثار في مدينة بولسانو بإيطاليا: “حسناً، لدي أبرد قضية يمكنك العمل عليها”، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية. وحُفِظت الضحية المجهولة، والمُلقَّبة باسم أوتزي، في حجرةٍ باردة حرفياً بمتحف أنجليكا لمدة ربع قرن. وتُعَد مومياء هذا الرجل، الذي عادةً ما يُطلق عليه رجل الثلج، أكثر المومياوات المحفوظة بإتقانٍ في العالم، وكانت جثة هذا الرجل الذي عاش في العصر النحاسي قد تجمَّدت داخل نهرٍ جليدي يجري بمحاذاة الحدود الإيطالية الشمالية مع النمسا، إلى أن تسببت حرارة الاحتباس الحراري في انصهار الثلج، واكتشافها عام 1991. ووفقا لتقرير فرانس 24 كان عمر أوتزي 46 عاماً عند الوفاة، وطوله متر و60 سنتيمتراً، وكان يزن خمسين كيلوغراماً. وذهب العلماء أبعد من ذلك، إذ توصلوا إلى أنه كان مصاباً بحساسية تجاه منتجات الحليب، وكان عرضة للإصابة بأمراض القلب الوعائية، علماً أن الرأي العلمي السائد كان يقول إن هذه الأمراض سببها نمط الحياة الحديثة. لكن الغموض ما زال يلف شخصية رجل الجليد. فقد أظهرت الدراسات أن لباسه كان متقن الصنع، ويضم خمسة أنواع من جلد الحيوانات. وعثر بحوزته على جعبة كاملة من المعدات، منها فأس نحاسية، وهي الأداة الأكثر تطوراً في ذلك الزمن على الأرجح، وخنجر حجري، وأداة لإضرام النار، وأدوات طبية. وتحوم الأسئلة الكثيرة حول ما إن كان “أوتزي” مشعوذاً، ولاسيما لوجود 61 وشْماً على جسمه، أم كان منبوذاً من مجتمعه، وماذا كان يفعل عند هذا الارتفاع، ولماذا قُتل، ولماذا لم يدفن. الطريف أن “أوتزي” تبيَّن أن لديه أحفاداً يعيشون الْيَوْمَ، وقد يطالبون بالقصاص لجدهم الأكبر، فقد اكتشف علماء نمساويون بعد تحليل الحمض النووي لأكثر من 3700 نمساوي تبرعوا بالدم في السنوات الأخيرة، أن 19 منهم في النمسا أقرباء “جينياً” لـ”أوتزي” الذي اكتشفت مومياء جثته في 1991 في الجانب الإيطالي من جبال الألب المجاور لولاية “تيرول” النمساوية على حدود مشتركة لأعالي الألب بين الدولتين، حسب تقرير نشره موقع العربية. أحد العلماء، وهو والثر بارسون، قال “إنه عثر على أشخاص آخرين في سويسرا وإيطاليا أيضاً منحدرين من شجرة الحمض النووي نفسه لرجل الثلج”. انفراجة وظل سبب الموت غامضاً لمدة 10 أعوام بعد اكتشاف الجثة، حتى فُحِصت بأشعة إكس لتظهر شُبهة جنائية على شكل رأس سهمٍ اخترق ظهره من تحت كتفه بالضبط. ولكن الآن، تمكَّن المحقق ألكسندر، بفضل ثروة هائلة من المعلومات العلمية الجديدة التي جمعها الباحثون، من استنتاج صورةٍ مُفصَّلة تفصيلاً واضحاً لما حلَّ برجل الثلج في هذا اليوم المشؤوم منذ حوالي 3300 عام قبل الميلاد، حسب نيويورك تايمز. وقال المحقق ألكسندر، وهو مُحللٌ مشهور: “عندما عُرِضَت عليَّ الفكرة في بداية الأمر، ظننت أن القضية في غاية الصعوبة، إذ مر زمنٌ طويل على الحادثة، ولكن في الواقع، الجثة أفضل حالاً من بعض ضحايا جرائم القتل التي حققت فيها مؤخراً، إذ كانت جثثهم مُلقاةً في الخلاء”. وليس هناك سوى عددٍ قليل من المومياوات التي تُضاهي مومياء أوتزي في القِدَم، ولكن حتى تلك المومياوات ليست محفوظة حِفظاً مُتقَناً مثلها. إذ حُنِّطت معظم هذه المومياوت تحنيطاً دينياً، أي نُزعت منها الأعضاء الداخلية، ثم أُضيفت إليها مواد كيميائية أو تعرَّضت لظروفٍ قاسية ومُدمرة. ولم تقتصر فوائد النهر الجليدي على تجميد أوتزي حيث مات، ولكن الرطوبة العالية للثلج حافظت على سلامة جزءٍ كبير من أعضائه وبشرته. وقال المُحقق ألكسندر مُتعجباً: “لك أن تتخيل أننا نعرف ما بداخل معدة شخصٍ مات منذ 5000 عام، ولا يمكننا فعل ذلك في العديد من القضايا، حتى تلك التي تواجهنا في هذه الأيام”. وكانت محتويات معدة أوتزي، وفقاً لما أظهرته، عاملاً حاسماً في تحديد ما حدث له بدقةٍ متناهية، بل ساعدت أيضاً في تسليط الضوء على الدوافع المحتملة لقاتله. وقد زادت المعلومات التي يعرفها العلماء عنه، فلقد كانت عيناه بنيتين، وشعره بنياً داكناً يصل إلى كتفيه، ومات عن عمرٍ يُناهز 45 عاماً، وربما أقل من ذلك أو أكثر بستة أعوام، ويُعد ذلك عمراً كبيراً بالنسبة للعصر الحجري الحديث، ولكن أوتزي كان لا يزال بصحةٍ جيدة. وتُظهر البنية الجسدية لأوتزي أنَّه كان رجلاً يبذل مجهوداً شاقاً في السير لمسافاتٍ طويلة مما زاد من قوة عضلات قدميه، ولكن عضلات الجزء العلوي من جسده كانت أقل قوةً، وتكاد تكون نسبة الدهون في جسده منعدمة. وعندما يُنظر إلى أوتزي من خلال نافذة غرفة التبريد بالمتحف، حيث ترقد جثته هناك الآن، تبدو يداه صغيرتين إلى درجةٍ غير عادية، ولا تظهر عليهما سوى علاماتٍ قليلة على استخدامهما في العمل الشاق، وهو ما يُرجِّح أن أوتزي لم يكن عاملاً يدوياً، حسب تقرير نيويورك تايمز. وفي عام 2012، كشفت فحوصات أنه ينحدر من جماعات ذات خاصيات مشابهة لسكان جزيرتي سردينيا الإيطالية وكورسيكا الفرنسية. الطب الشرعي وتعتمد كل التحقيقات المعاصرة في جرائم القتل اعتماداً رئيسياً على علوم الطب الشرعي، ولكن في قضية أوتزي، فالأساليب المُستخدمة تحظى بدرجةٍ عالية من التكنولوجيا والدقة، بما في ذلك متخصصون في مجالات غريبة مثل مجالي علم الآثار النباتية وعلم الفلزات، وفقا لنيويورك تايمز. وبفضل فحص آثار حبوب اللقاح في القناة الهضمية لأوتزي، تمكَّن العلماء من تحديد تاريخ موته، الذي يبدو أنَّه حدث في وقتٍ ما في نهاية فصل الربيع أو بداية فصل الصيف. وفي آخر يومين في حياته، كما اكتشف العلماء، تناول أوتزي ثلاث وجباتٍ مختلفة، وسار من على ارتفاع 6500 قدم نزولاً إلى أرض الوادي، ثم صعد إلى قمة الجبل مرةً أُخرى حيث وجِد مقتولاً في موقع الجريمة على ارتفاع 10500 قدم. ووُجِدَ في جسده جرحٌ بارز آخر إلى جانب الجرح الذي سببه رأس السهم، وهو جرحٌ غائر في يده اليمنى بين إصبعي الإبهام والسبابة، وممتدٌ إلى العظام، ومن المحتمل أنَّ هذا الجرح قد تسبب في إعاقته. ووفقاً لدرجة التعافي التي ظهرت على الجرح، يُرجَّح حدوثه قبل يوم أو يومين من الموت. وفي ضوء هذه المعلومات، يُرجِّح المُحقق ألكسندر أن أوتزي قد يكون نزل إلى قريته وتورَّط في عراكٍ عنيف. وقال ألكسندر: “لقد كان الجرح عميقاً ويبدو أن أوتزي كان في وضعية دفاعية حين أُصيب به، ومن المُثير للاهتمام في هذا السياق عدم وجود إصاباتٍ أُخرى في جسده، وليس هناك كدمات أو آثار طعنات، لذا فمن المحتمل أنَّه خرج منتصراً في هذا العراك، بل من الممكن أنَّه قد قتل الشخص الذي حاول الاعتداء عليه”. ثم غادر القرية مُحمَّلاً بالطعام، ومعه جمرٌ لإشعال النار ومُغلَّفٌ بأوراق شجر القيقب داخل أسطوانةٍ من لُحاء شجر البتولا، فضلاً عن بعض المعدات والمؤن الأخرى، وربما وضع معظم هذه الأشياء داخل وعاءٍ محمولٍ على الظهر، ومُزوَّد بإطارٍ خشبي. أمَّا بالنسبة للأسلحة، فلم يأخذ معه سوى خنجرٍ صغير مصنوع من الصوان، ويبدو أنَّ هذا الخنجر هو السلاح المُكافئ لمسدس الجيب في العصر النحاسي، واصطحب أوتزي معه عصا قوسٍ طولها ست أقدام ولم تكتمل صناعتها، وجُعبةً مصنوعةً من جلد الغزال ومُشكَّلة تشكيلاً يدوياً جميلاً وبها دستةٌ من الأسهم من بينها سهمان فقط مزوَّدان بنصل. وافترض المحقق ألكسندر أن أوتزي لم يكن على عجلةٍ من أمره. وعلى ارتفاع 10500 قدم، نصب أوتزي ما قد بدا أنَّه مخيَّمٌ في أخدودٍ محمي على سِرج الجبل، ووضع متعلقاته حوله، ثم جلس لتناول وجبته الأخيرة. وأضاف المحقق ألكسندر قائلاً: “قبل حوالي نصف ساعة من موته، كان يتناول أوتزي وجبةً صحية، حتى وإن بدت أنَّها دسمة”، إذ تتسم قائمة الأطعمة في العصر النحاسي بالتوازن الجيد، وكانت تتكون من لحم التيس الجبلي، مطهياً كان أو نيئاً، والقمح وحيد الحبة (مجموعة متنوعة من النباتات المألوفة في العصور القديمة) في شكل خبزٍ على الأرجح، وبعض المواد الدهنية، التي قد يُحصَل عليها من لحم الخنزير المقدد أو الجبن، ونبات البراكِن. هكذا قتل وهناك دليلٌ واضح على أنَّ بعض الطعام قد طُهي قبل فترةٍ وجيزة من موته. وقال المحقق ألكسندر: “إذا كنت على عجلةٍ من أمرك، وأول ما يشغل تفكيرك هو الهروب من شخصٍ ما يحاول قتلك، فلن تجلس وتطهو الطعام بتمهُّل. لم يكن يتبقى على صناعة القوس الذي اصطحبه أوتزي معه سوى نصف يوم من العمل، ولكن لم تكن هناك علامةً على أنَّ أوتزي كان يحاول إكمال صناعته في هذا الوقت”. وبعد أن تناول أوتزي وجبة العشاء بنصف ساعة، أتى القاتل وأطلق السهم على ظهره من مسافة تبعد حوالي 100 قدم. واخترق السهم ظهره من أسفل إبطه الأيسر، وأحدث مزقاً عرضه نصف بوصة تقريباً في الشريان المار تحت الترقوة، وذلك جرحٌ فتّاك يُسبب الموت السريع، وقد يكون غير قابل للعلاج حتى في عصرنا الحالي، وخاصةً بالنسبة للمكان الذي وقع فيه. ووفقاً لزاوية الجرح، فإمّا أنَّ السهم قد أُطلِق على أوتزي من زاوية خلفية سفلية، أو أنَّ أوتزي كان منحنياً للأمام وأُطلق عليه السهم من زاوية خلفية علوية. وتابع المحقق ألكسندر حديثه قائلاً: “كان هدف الجاني أن يقتله، وقرر رمي السهم من مسافةٍ بعيدة، ربما يكون قد تعلَّم من خطئه حين حاول أن يعتدي عليه من مسافةٍ قريبة منذ يومٍ أو اثنين، وتشبه هذه الطريقة أسلوب الاغتيالات الذي نراه كثيراً في عصرنا الحالي. معظم جرائم القتل لها دوافع شخصية وتتبع العنف ومن ثم التصعيد في العنف. “أريد تتبع المجني عليه، ثم إيجاده وقتله”. لم تختلف جميع المشاعر التي تسيطر علينا أثناء ارتكاب جرائم القتل بمرور كل هذه السنوات”. الدافع وراء السرقة وقال ألكسندر إنه يمكن استبعاد دافع السرقة بكل تأكيد. صحيحٌ أنَّ أوتزي كان يمتلك فأساً نحاسية، وكانت تعَد هذه الفأس تُحفة ثمينة لا تُرى إلا نادراً في مراسم الدفن في هذه الحقبة الزمنية. وكانت ملابسه وأدواته مُلائمةً للظروف المناخية القاسية فوق جبال الألب، وربما كانت ثمينة، ومصنوعةً من جِلد وفِراء مأخوذين من 10 حيواناتٍ على الأقل من ست فصائل. وقال المحقق ألكسندر: “لم تكن هذه سرقةً عادية وتطوَّر الأمر فيها إلى القتل، من الواضح أن القاتل كان يحاول إخفاء جريمته، فحين تعود إلى قريتك ومعك هذه الفأس النادرة، سيغدو ما حدث واضحاً”. وتواصِل قضية أوتزي الباردة إثارة ذهول العلماء المتخصصين بعدة مجالات والذين لا يزالون يعكفون على دراسة بقايا أوتزي، فقد تبين أنه كان يعاني من ميكروب عضال في المعدة، هو جرثومة المعدة أو “الملوية البوابية”. وحسب فرانس 24، فقد أثار ذلك اهتماما خاصا بين العلماء، لأن هذه البكتيريا منتشرة كثيراً اليوم وهي مسؤولة عن الإصابة بالقرحة والأمراض السرطانية، وفقاً لألبرت زينك مدير المؤسسة المعنية بالأبحاث حول “أوتزي”. وقال زينك لوكالة الأنباء الفرنسية “ربما كانت هذه البكتيريا مفيدة فيما مضى، تسهل هضم اللحوم، ثم أصبحت ضارة بعد ذلك”. وهذا الميكروب ألقى ضوءاً جديداً مذهلاً على أنماط هجرة إنسان ما قبل التاريخ، مما يظهر أن المزارعين الأوائل بأوروبا على الأرجح أتوا من الشرق الأوسط، حسب تقرير نشره موقع قناة الجزيرة. أسرار الهجرة الأوروبية وبعد جهد مضنٍ، تمكن العلماء من استخدام البكتريا المتقرحة في معدة أوتسي لتحديد الأصول الأولى لمزارعي أوروبا. وهناك نسخة هجينة من تلك البكتيريا لا تزال موجودة لدى الأوروبيين الآن. وهذه السلالة المكتشفة في معدة أوتسي تظل أوراسية (ناشئة في أوروبا وآسيا وإفريقيا) بحتة. وكان يعتقد أن الأفارقة انتقلوا إلى أوروبا منذ أكثر من عشرين ألف سنة مع بداية تراجع جبال الجليد. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أنه كان هناك دليل من السلالة الإفريقية في نسيج معدة أوتسي. وعزز تحليل البكتيريا في معدته الرأي القائل بوقوع هجرة كبيرة من الشرق الأوسط إلى أوروبا في وقت مبكر، أكثر مما كان يعتقد. ولكن هناك شيءٌ واحد من غير المرجَّح أن يكتشفه العلماء، إذ قال المحقق ألكسندر بضحكةٍ مكتومة: “لست متفائلاً حيال قدرتهم على اكتشاف الجاني في قضية أوتزي”. وقالت كاترينا هيرسل، نائبة مديرة المتحف، إن رجل الثلج يبدو مألوفاً بشكلٍ مُذهل لأحفاده المعاصرين، سواء في حياته أو بعد مماته، حسبما نقلت عنها نيويورك تايمز. وقالت كاترينا: “إنّ سماته تُشبهنا كثيراً، إذ يستخدم المُعدات نفسها التي نستخدمها حين يذهب إلى الجبال، ولكن باختلاف المواد فقط. ولا يزال القتل منتشراً بيننا، لذلك يبدو أننا لم نخضع لتطورٍ كبير بعد كل هذا الزمن”.