×
محافظة المدينة المنورة

حادث تصادم يخلف إصابات.. ومتحدث الهلال يكشف لـ”المواطن” الأسباب

صورة الخبر

نتفق جميعاً على عظمة لوحات الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ، لما فيها من تأثيرات حسية وإنسانية كُبرى، لكن الواقع أنه لم يبِع من تلك اللوحات في حياته، ولم يُقدّر من قِبل النقاد ولا المجتمع المخملي الذي كان يقتني إبداعات الفن بأنواعه وباستمرار، هؤلاء اتفقوا جميعاً - برأيي - بعد أن قرأت سيرة فان غوخ وأعماله كلها، اتفقوا على أن لوحاته كلها تصوغ حياة أناس لا يعرفونهم، حياة الفلاحين بأثوابهم الرثة، ورغم أن فان غوخ رأى في هؤلاء الفلاحين الأهمية الكبرى والسبب الرئيسي في خيرات المجتمع والمملكة الهولندية كلها، فالزراعة هي أساس وجودهم، لكن الفلاحين بقوا منسيين في أراضي الأسياد والمُلاك الذين يبحثون عن لوحات لأثاث منزلي ثمين: فضيات، زهور تبدو يانعة وفواكه لامعة، وجوه جميلة لعائلات معروفة.. وإلى آخر ما يمس الرفاهية والجمال البصري. إذ كانوا يقتنون من أجل البهجة وتعليق ما لديهم على جدرانهم الزاهية، لتتجلى المسرات بين كل ركن وزاوية أينما يعيشون. من زمن آخر فنسنت فان غوخ انشغل برسم حصاد الأرض ونباتاتها الصفراء الحزينة وقيلولة العاملين في الأرض حتى أبحر في حياتهم الخاصة، ولم يجدها سوى بائسة مع انكساراتهم التي لا تنتهي في مجمل حياتهم، لا يجدون سوى قوت اليوم بعد نهار طويل من العمل، فاستراحة يوم لا يقابلها سوى الجوع والحرمان من وجبة، أصلاً هي لمن يعمل فقط. بالطبع أنا أتحدث عن زمن لم يكن فيه إجازة أسبوعية مقابل أجر، ولا تأمينات صحية للفلاحين، بل عمل يومي مقابل وجبة. حسٌ عالٍ سمعنا كثيراً عن اكتئاب فان غوخ ومرضه وغرابة سلوكه أو جنونه كما قيل، ولا شك أنه من الطبيعي أن يمر بكل ذلك وهو الفنان الذي غرق في حسه العالي لكونه إنسانا شفافا بكل ما تعنيه الكلمة، ولأنه عاش مآسي غيره، لذا قام وعبر عن الفقراء، ليخلدهم بكل حب في لوحاته التي لا تباع بدورها، بل تأخذ طريقها إلى ألسنة الناس استهزاءً، فهل هم مجانين لدفع أموالهم لكل ما يصوره من فقر وبؤس ورياح تهز الأشجار بخوف في ليالٍ باردة ومظلمة وبيت يرسمه متمايلًا وكأن الأشباح تسكنه، وأحذية رثة ومزهرية عباد الشمس بزهورها شبه الميتة.. حتى أتى دور لوحته التي تسمى «الكرمة الحمراء» أو «رِد فينيارد» وقد أطلق عليها هنا مسمى «أعناب حمراء».. إذ بيعت اللوحة، ولكنها اليوم لا يتطرق لها الكثير إعلانيا أو جماهيريا قياسا بلوحات غوخ الأخرى. تفسير بعد انتقادات الجمهور والنقاد للوحاته، كانت لوحة «أعناب حمراء» لافتة هذه المرة لجمهور المعرض في مدينة بروكسل عام 1890م، أي بعد عام من رسمه لألوان اللوحة التي بدت زاهية هذه المرة، فالوقت أقرب للغروب.. والشمس بدت، رغم رحيلها، زاهية وكأنها تحتفي بحصاد العنب مع الفلاحين، وينتشر اللون الأصفر في السماء ليتدرج نحو الأسفل وتظهر الأرض صفراء من مسافة بعيدة، ويمتزج اللون بالتدريج لتصطبغ اللوحة بالأرجوان، ذلك اللون الوحشي الخليط بين الأحمر والبرتقالي. لاحت اللوحة بأمل، ومنحت الشعور بالدفء والاكتفاء والاحتفاء والإنتاج والبهجة.. ونلحظ أنه حتى في ميلان الأشجار الخضراء المصطفة في يسار اللوحة، انحناء مؤثر، ليبتعد القلق عن المكان، وتبتعد فكرة اللوحة عن نمطية الحصاد المرسومة بكثرة. فان غوخ والمكان جدد فان غوخ فكرة هذه اللوحة بحب، بعد أن أصابت المزروعات أمراض فتاكة.. لتتبلد الأرض بعد أن أصابها الوباء، وينخفض الإنتاج في تلك السنة، وهكذا تأثر الفلاحون سلبا، فما كان من فان غوخ إلا أن رسم هذه اللوحة تضامنا مع روح الفلاح ومعنوياته. المكان الذي استلهمت منه لوحة «أعناب حمراء» هو في أطراف مدينة آرل الفرنسية المشهورة بزراعتها، فالشمس ساطعة فيها معظم أيام السنة، حوالي 300 يوم مشمس، مما جعلها تتميز لتمنح إنتاجا زراعيا عالي الجودة، وهي لا تزال تفاخر بخصب وجمال أراضيها ومشاهد حصادها التاريخي العريق، إذ إنها متصدرة في المجال وبكل المقاييس، وحتى يومنا هذا. 3200 درهم اشترت اللوحة سيدة بلجيكية وفنانة انطباعية من الصالون السنوي المقام سنويا في باريس، تدعى آنّا بوخ، وهي من عائلة فنية معروفة، فهي من جانب شقيقة الفنان الانطباعي أوجين بوخ، والذي هو صديق لفان غوخ، ووالدها خبير في فن الفخار الراقي. وقد كانت آنّا بوخ حيال تحمل مسؤولية فاعلة تجاه فقراء الفن دون البوح بذلك. وقمت بالبحث - فضولاً - عن سعر اللوحة، ليتبين لي أنها بيعت بمبلغ 400 فرنك وهو ما يعادل في يومنا هذا 3200 درهم. وتلقى فان غوخ خبر البيع وأفرحه ذلك، لكنه انتحر بعد عدة أشهر من بيع اللوحة، لكون المرض الذي يسمى جنون أو اضطراب العقل قد اشتد عليه، واستشرى فيه الاكتئاب، ولم يصمد أمام كل هذا الجحود من الناس ومن النفاق العام ومن النيل من مكانة وقيمة ما يقدمه أناس يغرقون في أعمال الأرض التي لا تنتهي من أجل مقابل بسيط. أرهق فان غوخ روحه بتفكيره المستمر باللاجدوى من كل شيء، وحساسيته أنهكته وأتعبت قلبه، رغم أنه لم يكن من تلك الطبقة المعدمة، بل كان فنانا تفوّقَ بجوارحه على كل خيال. أين ذهبت اللوحة بعد آنا بوخ؟ وبما أن الفنانة آنا بوخ متواصلة من الفنانين بروحها الطيبة وقلبها الكبير، فقد قامت ببيع لوحة فان غوخ، لتمنح سعرها إلى فنان فقير ومتقاعد، فقد كان المبلغ كافيا ليمده بالقدرة على العيش الكريم في بقية حياته. ذهبت اللوحة بدورها إلى مشتريها، فتم بيعها من يد إلى يد حتى غدت «رِد فينيارد» أو «الأعناب الحمراء» معلقة على جدار متحف بوشكين للفنون الجميلة في العاصمة الروسية موسكو. ومن المحتمل، كما يقول الخبراء حاليا، أن يصل سعرها المادي إلى مستوى سعر لوحة «الجيوكندة» والمشهورة بـ«الموناليزا» للرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي، والقابعة الآن في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية باريس. المنزل الأصفر عنوان فان غوخ الفني يمثل منزل فان غوخ العنوان الفني له، إذ كان قد رسمه من الخارج، وكذلك من الداخل، ورسم غرفته الشهيرة فيه وبنسخ عديدة، كما له حكاياته في هذا البيت مع صديقه بول غوغان، لذا هو عنوان فني بامتياز. هذا المنزل يقع في مدينة آرل الفرنسية، في حي الفرسان، استأجره فان غوخ في 1 مايو 1888م، إذ أخذ الطابق الأرضي منه، الجزء الأصغر منه، حيث حجرته الخاصة ومطبخه الخاص، وذلك لفترة زمنية بلغت 9 أسابيع.. لتخرج لوحة «الأعناب الحمراء» من غرفته ومن خياله في البيت الأصفر، ولم يرسمها قرب الحقل كما يعتقد البعض. ولا شك أنه تأمل حصاد العنب.. وهو واقف أمام الكروم التي استعادت عافيتها، ومشى ساعات طوال بالقرب من الأرض قبل عودته إلى المنزل. آنّا بوخ البرجوازية الانطباعية أُعجب فان غوخ الانطباعي بلوحات آنا بوخ، الفنانة البلجيكية والموهبة الرائدة في مدينتها بروكسل، التي تركت العديد من اللوحات.. والشاهد أنها كرست في رسمها الفن الانطباعي مع زملائها من الفنانين في أوروبا، سواء بالتنقيط أو بالاعتماد على نقل الحدث الواقعي بالعين المجردة. ولأنها أحبت الفن ومن أسرة غنية، وكون أبوها مشجعا على الفن ومؤسسا للفخار الملكي، قامت آنا بترويج لوحاتها وتوجيهها للشباب وعصرها، وقد أتى في وصيتها تبرعها بلوحاتها إلى المتاحف، أما أموالها، فكما أتى في وصيتها، ذهبت إلى الفنانين الفقراء. أوجين بوخ الصديق الوفي ثمة صداقة لطيفة جمعت بين الفنان فان غوخ والفنان البلجيكي الميسور الحال أوجين بوخ، والشقيق الأصغر لآنا بوخ، أوجين، كان فنانا بآفاق مختلفة، لما لديه من حس رفيع تجاه أصدقائه من الفنانين الموهوبين من الفقراء.. ولرغبته الكبيرة الدائمة في مساعدتهم، تماما كوالده وأخته، كما أن معيشته في المجتمع البلجيكي المعروف بحرية تعبيره الفني ومعيشته في باريس التي استقر فيها بشكل دائم، أمور جعلته منفتحا على جميع الرسامين ويركز على أن يتبادل اللوحات معهم، ومن المفارقات الغريبة، رسمه صديقه فان غوخ بلوحة شخصية «بورتريه» وذلك قبل انتحاره. رسالة ومتحف في الرسالة الشهيرة التي أرسلها ماثيو لشقيقه فان غوخ، يشرح له لوحته التي رسمها والمشهد غير العادي لتلك المزارع التي يعدها بمثابة منجم، وأنه من الجميل أن تكون لدينا الرغبة الدائمة لرؤيتها، حيث فصل الخريف والمعنى المعتق، وانعكاس كل شيء في النهر. هذه الرسالة محفوظة الآن في متحف فان غوخ في هولندا، ومن الرسائل المؤثرة، تلك المتداولة بين الأخوين بكثرة في حياتهما، خاصة أن ماثيو هو وكيل أعمال أخيه، يستعرضها ويسوقها في المعارض. 1888 في هذا العام رسم فنسنت فان غوخ لوحته «رِد فينيارد» أو أعناب حمراء، بألوان من زيت، وهي قطعة وحيدة ولم ينسخ منها كما فعل مع لوحة زهرة عباد الشمس وغرفة نومه. 88 عاشت آنّا بوخ ثمانية وثمانين عاما. ظلت ترسم في ورشتها طويلاً، لتنتج خلال سنوات عمرها لوحات انطباعية تعتمد على التنقيط، وبمعايير الفن الحديث آنذاك. 37 عاش فنسنت فان غوخ سبعة وثلاثين عاماً، ورغم عمره القصير فإنه ترك مئات اللوحات الانطباعية والمعاني خلفه، ليصبح أهم فناني عصره.