أحد الإشكالات الأزلية التي ارتبطت بهذا المفهوم هي النظرة المثالية للتراث، وهذا موقف «وجداني» غير عقلاني يرى في الموروث مثالية غير حقيقية تؤدي إلى انتقائية تبعد غير المرغوب فيه وتركّز على ما يتناسب مع الصورة الذهنية التي يراد تحقيقها.. خلال اشتغالي بالتراث خلال السنوات الأخيرة، وخصوصاً التراث العمراني كان يوجه لي سؤال "ابستمولوجي" مفاده هو: هل نحتاج للتراث في عصر التحول الاقتصادي والمعرفي وحتى الاجتماعي والثقافي؟ ما الذي سيضيفه التراث لنا في هذه الزحمة المعرفية وماذا يمكن أن يغير؟ كان يقول لي البعض: هل تنظر للتراث نظرة اقتصادية أم نظرة عاطفية، ورغم أن السؤال الأخير يتعارض في جوهره مع الأسئلة التي سبقته إلا أنه أثار لدي الرغبة في إعادة التفكير في هذه المسألة برمتها، فأنا لم أنظر للتراث في يوم على أنه سلعة يمكن أن يستثمر لكنه دون شك منتج جذاب يمكن أن يصنع منتجات حوله ذات طاقات استثمارية. حديثي في هذا المقال لا يخص التراث العمراني، بل عن "مأزق التراث" بشكل عام. توقفت عند مقولة "براغماتية" تنسب إلى مؤرخ الفنون "هربرت ريد" يقول فيها: إن التراث "مجموعة من وسائل تقنية، يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون إلى ما استحدثناه من طرق جديدة". هذه العبارة أشعرتني ببعض الراحة وناسبتني كثيراً خصوصاً كوني "تقني" و"معماري" كما أنها عبارة تعلن عن مصالحة عامة بين الماضي والحاضر والمستقبل. لكن حقيقة الموقف من التراث أشد تعقيداً من هذا الموقف "النفعي" إن جاز لنا التعبير. أحد الإشكالات الأزلية التي ارتبطت بهذا المفهوم هي النظرة المثالية للتراث، وهذا موقف "وجداني" غير عقلاني يرى في الموروث مثالية غير حقيقية تؤدي إلى انتقائية تبعد غير المرغوب فيه وتركّز على ما يتناسب مع الصورة الذهنية التي يراد تحقيقها. من هذه النظرة على وجه الخصوص شكلت الصورة المعيارية للهوية المراد تحقيقها مع أنها هوية غير حقيقية. هناك إصرار، غير مبرر، على ربط الهوية بالماضي، بل إن هناك قناعات لدى البعض أن الهوية المثالية التي يجب أن نعبر عنها تشكلت في الماضي البعيد وأن أي محاولة لصنع هوية ستكون عبثية إذا لم تسعَ إلى استعادة تلك الصورة المثالية المرسومة في الأذهان. هذا التصور، كما يراه المشتغلون بتطور المجتمعات، غير عقلاني ويشكّل أكبر عائق للتنمية، ويمكن أن يجهض أي رغبة في التحول والتغيير وسيشكل باستمرار حائط ممانعة، إذا لم يتماهَ مع هذه الصورة. يبدو أن الإجابة على الأسئلة التي يثيرها موضوع التراث صعبة في ظل هذه الأدلجة والانتقائية التي تصاحبه، فالتعامل مع التراث بحسناته وعيوبه شرط أساسي لفهم التجربة كاملة، والتوقف عند "التعلم" من الموروث مسألة أهم، لأن هناك من يريد أن يعيش في التراث ويتبنى حياة ماضوية تفصلنا عن الواقع، ولا يريد الخروج من قبضته وقيوده والنظر إليه نظرة خارج المثالية التي يؤمن بها، والتي تمثّل في الأصل حالة إقصائية لجزء من التراث وتضرب بعضه ببعض، وهو ما يعتقده جورج طرابيشي في كتابه "مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة". الخروج من هذا المأزق يتطلب تبني نظرة علمية "ابستمولوجية" تضع قواعد لفهم الموروث وفق أسس منهجية تبحث في الجوانب العلمية والعملية المرتبطة به وتعزز دوره في حياتنا المعاصرة، أي لابد من البحث عن تركيبة عضوية يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه، حسب قول زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي". هذه التركيبة سميتها "التراث الموازي"، وهو مصطلح استخدمته مؤخراً في أكثر من مناسبة من أجل الخروج من المواقف المنحازة للتراث أو تلك التي ضده، من أجل الإجابة على السؤال الأساسي عن مدى حاجتنا للتراث في وقتنا الراهن. هذه الفكرة تتعامل مع التراث كمصدر إلهام، وليست استمراراً له، من خلال تفكيك عناصره الإيجابية والسلبية وفهم الكيفية العملية التي تم إنتاج هذه العناصر بها. إن فكرة التراث الموازي نشأت كتوجه بديل يحررنا من "أدلجة التراث التقليدي" خصوصاً على المستوى العملي لأنه سيكون منسوجاً في حياتنا المعاصرة لكنه مولد من الموروث ليس بنتاجه النهائي الذي بين أيدينا بل من خلال استدعاء الأساليب والأفكار التي ساهمت في تشكيل تراثنا التقليدي بالصورة التي نراها اليوم.