نتيجة لتأثيراتها العميقة في الثقافات المحلية وفي السلوك الاجتماعي وأنماط المعيشة، لا تزال هستيريا الهوية تنتعش هنا من شمال شرقي كينيا إلى المنطقة الساحلية ذات الأغلبية المسلمة (ممباسا)، كقاعدة صلبة تهدد ثوابت المجتمع بالتفكيك على نسيج حضارته وقيمه عبر التأثيرات التي تمارسها العولمة والتي لا مندوحة في اعتبارها مصطلحات اقتصادية ذات طوابع محدودة. مع مرور الزمن، فإن دائرة الخيارات الثقافية والاجتماعية والإقتصادية تأخذ منحاها في التبعية والتضييق من حيث تضاؤل القدرة الاجتماعية في حماية خصوصياتها الذاتية، وهنا يمكن الجزم بأن هوة التيارات الثقافية الغازية أصبحت خياراً بديلاً لهذا المجتمع. يقول صمويل هنتنغتون، في إشارة إلى منظر العولمة الأميركية في كتابه "صراع الحضارات"، إن العالم يتوجه نحو حرب حضارية تكون فيها القيم الثقافية الرمزية هي الحدود الثقافية بين الحضارات، وكل من ينتمي إلى هذه الهوية، المكونة من الدين واللغة والتاريخ والتراث الثقافي. فالنقاش حول الهوية قد أصبح سائداً في ساحات النقاش الفكري في العالم بالدول الضعيفة والقوية والمتقدمة. بهذا المنوال، فإن مسلسل تأثيرات العولمة الجياشة والعاتية نتج عنه شروخ اجتماعية كبيرة، وإن كان بعض الساسة وأفراد من المجتمع يعتبرون ذلك عامل تقدم وتطور، إلا أن الواقع يفرض مخاطر جدية من خلال إضعاف الإحساس بالذاتية والتميز والاعتزاز بكل ما يمت بصلة إلى التراث الحضاري والرصيد الثقافي لهذا المجتمع. على مستوى العمل الثقافي والفكري والأدبي والفني في حقوله المتعددة وعلى مستوى التعليم، يمثل من أبجديات الأزمة الواقعية -لأن التعليم القوي الهادف يشكل المنطلق الأساس لمواجهة هذه التحديات- فكيف إذا كانت العولمة نفسها قد اخترقت حدود التعليم وانخرطت في أصقاعه؟ إن عقلية التبعية والانجراف خلف ثقافة غربية وأخرى شرقية، يمثل في حد ذاته مفخرة وعامل تقدم في أوساط شرائح كبيرة في هذين المجتمعين، ورغم تبدد قيمهما وحضارتهما كلياً فإن بارقة الأمل في الاستعادة على ضآلتهما يكتنفها الضبابية وعدم الوضوح في المنظور البعيد، حيث إن سقف تطلعات المجتمعين وعدم تكيُّفهما المنضبط مع المناخ الثقافي والإعلامي الذي تشكله تيارات العولمة لا يزال يأخذ منحاه نحو الاتجاه المخطَّط له. فالعولمة الثقافية تستهدف العقل والنفس والإدراك، فنظام الإدراك يعمل على فراغ الهوية الجماعية من كل محتوى، ويدفع المجتمع إلى التشتيت والتفتيت ابتداءً من كوادره وأبنائه، ووصولاً الى عقلية تفكيره كمجتمع يختزل بقيمه وحضارته، ومع هذا فإن أبناء ممباسا وقاريسا أكثر ما يجيدون لغة التلهف وراء الموضات والأفلام السينمائية والنمط الأميركي في اللباس، رغم أنه مسلسل ينتسب إلى البيت التعليمي الداخلي من الدرجة الأولى. ومن أجل الكشف عن طبيعة التخلفات السلبية وشرح الأخطار المشحونة في هجمة العولمة للثقافات المحلية الأخرى، يجب أن نمعن النظرة في التفكير المستبطن للطالب الخريج في إطار المنهج التعليمي الكيني. ونتيجة للاجتياح الثقافي للعولمة وجسامتها، أسعفت للطالب الكيني في هذين المجتمعين نقطة تحول جذرية لها طابع تقليدي عولمي، بداية من نظرته الاستخفافية بلغته الأصلية حيث يفضل عليها لغة أجنبية أخرى (الإنكليزية مثلاً)، إلى اضمحلال معايير عقليته وسلوكه الديني والفكري والأخلاقي، مروراً بمحاربته بكل يمت إلى تراثه وثقافته بصلة، كما يحاول جاهداً اكتناف نفسه بأدبيات العولمة والعالمية عبر ما تقدمه له القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت من برامج ومحتوى. وسط تصفيق اجتماعي كثيف وتمويل حكومي ثقيل، يشغل طالب المتخصص في علوم العلمية أو المادية صدارة اهتمامات البلاد كافة، ولم يعد في هذه الدرجة السامية كطالب يحمل روح ثقافته وقيم حضارة مجتمعه، لكنه طال في العمق باستيعاب الثقافات الأخرى الأجنبية، ففي هذه المناطق التي يقطنها قطاع كبير من المسلمين -منطقة ممباسا وقاريسا تحديداً- يعتبر أنها مظاهر النشاط الاقتصادي للحكومة الكينية إلا أن هذين المنطقتين تختزلان بعوامل التخلف والتمسك بذيل المجتمع ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، ولأن الشعوب الضعيفة اقتصادياً والمتخلفة تنموياً لا تملك أن تقاوم الضغوطات الثقافية أو تصمد أمام الإغراءات القوية لتحافظ على نصاعة هويتها وطهارة خصوصياتها. إذا كانت المدرسة قديماً تُعتبر مصدراً "محتكرً" يُستمد منه المعرفة وتوزيع الثقافات والهويات وتربية الجيل وتهذيبهم، فإن المنهج الدراسي هنا في كينيا يندفع إلى الطالب باتجاه التهور والاعتداء على المقدسات؛ بسبب طيش تعليمه وحالة النّزق في عقليته الثقافية. ورغم هذا فالقيام بأعمال جنائية وجنوحه في جلب أضرار للمجتمع أمرٌ وارد في حياة شاب لا يعرف ما تفرض عليه معطيات ثقافته وديانته ولا معنى الاعتداء على حرمات الناس، وعلى هذا الأساس يكون أسيراً لإملاءاته الذاتية ورغباته النفسية. وغالباً ما تُتهم شريحة المراهقين في المجتمع، وبالأخص الذين تابعوا مرحلة دراستهم في المدارس الحكومية، بإثارة نعرات جنائية وارتكاب حالة من الخلل الأمني، هذا فضلاً عن اختناق والديهم غيظاً بالأضرار الكثيفة والشكاوى المتعاقبة، إضافة إلى ردود الفعل المستجدة. وهذه التحديات الاجتماعية لا يمكن التغلب عليها إلا عن طريق المواءمة بين النظم وأنماط السلوك الحديثة والمحافظة على الثوابت والخصوصيات الثقافية والحضارية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي؛ وأولها بناء القاعدة العلمية في المجتمعات الحديثة؛ لأنها مفتاح التعامل مع تحديات الواقع وتمثل زاوية المنطلق، حيث إن بناء الإنسان هو الأصل في بناء الحضارة، ولأن المجتمع القوي القادر على الدفاع عن حقوقه ومصالحه هو الذي تقوم فيه نهضة تربوية علمية وثقافية شاملة، كما يقول الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري*. ثم إن التحرر من التبعية الثقافية في إطار تحرُك اجتماعي متجذر قد يكون طريقاً لمقاومة مماثلة أمام اجتياح العولمة في ظل ما ذكرنا أعلاه، ودون ذلك فإن مسار الهوية لهذين المجتمعين يكاد ينقصّ في حقول ثقافة مجهولة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.