جيلي الذي جايل الكثير من مدهشات العصر (الإذاعة المسموعة والإذاعة المرئية على سبيل المثال) قد جايل أيضاً طفرة موسيقية عبر الإذاعتين أو عبر مصادر موازية أخرى، وكانت الفرقة الموسيقية للإذاعة علامة مميزة في تلك الطفرة ولقد زادت بها علاقتنا وضوحاً بعد أن رأينا أفراد الفرقة رأي العين عبر الإذاعة المرئية. كانت تلك الفرقة حاضرة مع المستمع الذي أصبح مستمعاً مشاهداً فيما بعد، وكانت تعيد عزف مقطوعات موسيقية شهيرة أتذكر منها مقطوعة رقصة الأطلس ومقطوعة رقص الهوانم، ولما انطوت عليه الأولى من حميمية خاصة فقد كانت تتخذ كمقدمات للبرامج التي يغلب عليها طابع الاستضافة، ولما انطوت عليه الثانية من بهجة ومن فرح محلق فقد اتخذت مقدمة لبرامج التهاني أو عند إعلان أسماء الناجحين عبر الإذاعة السعودية، وكنا نسمعها أيضاً عبر الإذاعة المدرسية في المدارس التي تعلمنا فيها. كنت أنا وجيلي ونحن نتابع منجزات تلك الفرقة الجميلة نتنبأ لها بالاستمرار ونتمنى لها التوفيق، وكنا نتوقعها بعد سنين قد تطورت إلى أوركسترا ملكية تحيي الحفلات الموسيقية، تأخذ بأسماع جمهورنا الطيب إلى حيث تراث بيتهوفن وموزارت وباخ وتشايكوفسكي وسواهم، بل وتأخذ بأسماعنا أيضاً إلى تراثنا العربي والمحلي، محمد فوزي ومنير مراد وعبدالوهاب وطارق عبدالحكيم ومطلق الذيابي وسراج عمر وسواهم، لكن تلك الفرقة خيبت آمالنا فلم تتطور إلى أوركسترا ملكية، بل ولم تحافظ على بقائها أساساً. تطورت الأغنية المحلية وأصبح من تداعيات تطورها أن تكون مسجلة في الخارج، هناك حيث استوديوهات التسجيل الأكثر جاهزية وحيث الفرق الموسيقية الأكثر تأهيلًا، ومع تكرار السفر هدمت الجدران بيننا وبين الفرق الموسيقية الصديقة وبات استحضارهم إلى حفلاتنا في الداخل ممكناً في أي حين، ومع ما لذلك الاستدعاء من منافع إلا أنه قد أضر بفرقتنا العتيدة وضاعف من ذلك الضرر تقدم أعمار أعضائها وغياب الصفوف الثانية التي في مقدورها أن تكون خلفاً لسلف ثم ذلك الجهد الخجول لأقسام الموسيقى في جمعيات الثقافة والفنون. هناك فرق رائعة جداً لموسيقى الجيش السعودي وبإمكانها أن تقدم للمواطن مزيداً من المتعة لو أرادت، وقد رأيتهم في الباحة منذ أقل من ثلاثين عاماً وهم يقدمون ألحاناً تفاعل معها الناس من مختلف الأعمار، وفي مكتبتي المرئية أفلام ترى فيها كبار السن جنباً إلى جنب مع الشباب يتمايلون بأسلحتهم التراثية على أنغام موسيقى العرضة والمسحباني، وهذا يدفعني الآن لاقتراح أن تنزل تلك الفرق المتخصصة إلى الميادين العامة لتشارك المواطنين أعيادهم ومناسباتهم الوطنية فتكون مصدراً لبهجة الناس، وليتها تفعل ولكنها ولو فعلت فلن تغني أبداً عن إنشاء أوركسترا رسمية تبادر إلى تأسيسها وزارة الثقافة؛ فإن لم تفعل فلا أقل من فرقة مؤهلة تغطي بعضاً من غياب تلك الأوركسترا الحلم.