ربما كان أبو الديمقراطية الشيخ عبدالله السالم، رحمة الله عليه، يرى أن الكويت مازالت غير مستعدة لتطبيق الديمقراطية، لذلك أنهى كلمته، التي ألقاها على أول مجلس أمة، بعبارته المشهورة: «تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت، وإن تولت فبالأشرار تنقادُ» كنصيحة للشعب في حال انحرفت الديمقراطية عن مسارها الصحيح. كان الحاكم، قبل الدستور، يستعين برأي نخبة من المواطنين المقربين إليه في إدارة شؤون البلد، كانوا من المهتمين بالشأن العام يتمتعون بسمعة جيدة وثقة الجميع، وكان يطلق عليهم «أهل الرأي»، لم يكن الانضمام إليهم يتم عن طريق الوراثة أو الانتخاب، حيث كانوا يبرزون تلقائيا من بين المواطنين لما يُعرَف عنهم من اتزان ورجاحة عقل، فيقربهم الحاكم إليه ليستعين برأيهم. ومن بين ما طرحوه من مبادرات إصلاح ساهمت في نقل الكويت من قرية صغيرة إلى دولة مستقلة ذات سيادة وحدود معترف بها دوليا، هناك ثلاث مبادرات على مدى مئتين وستين عاما، نقلت المجتمع الكويتي إلى نظام ديمقراطي حديث، يحكمه دستور أساسه المشاركة في الحكم وفصل السلطات وتكافؤ الفرص مع ضمان الحرية والعدل والمساواة. في مقدمة تلك المبادرات كان الإدراك والوعي بأهمية وجود قيادة ومرجع للمجتمع، وقد تحقق ذلك عام 1752م باختيار الشيخ صباح الأول حاكما، أما الثانية فقد تحققت عام 1930م حين تم تأسيس المجلس البلدي وانتخاب أعضائه في أول تجربة انتخابية للمجتمع، وتحققت الثالثة حين تم استكمال كيان الدولة المستقلة عام 1962م باعتماد وثيقة الدستور الكويتي التي نقلت حق اختيار «أهل الرأي» من الحاكم إلى الشعب عن طريق الانتخابات العامة. ديمقراطية وشفافية تميزت ديمقراطيتنا في بدايتها بالشفافية والوضوح وحققت نجاحا باهرا في معظم مجالات البناء والتنمية، لكنها تعثرت في سبعينيات القرن الماضي بعد ارتفاع سريع لأسعار النفط، أدى إلى تراكم الفوائض المالية في خزينة الدولة وارتفاع قيمة الكرسي البرلماني، فأصبحت للصوت الانتخابي قيمة هيّجت درجة التنافس بين الحكومة والمجلس لكسب ود المواطن، نتج عنها سلبيات عديدة، بدأت بمنح المواطن مميزات تتجاوز ما يحصل عليه معظم مواطني دول العالم، وانتهت بإهمال الدستور وانحراف النظام الديمقراطي عن مساره. أثر ذلك على قواعد منح الجنسية، وزاد من تدخل المتنفذين في قرارات تعيين القيادات في المراكز الحساسة، فأصبح الولاء أهم من الأداء في اختيار المسؤولين الذين سقطت عنهم الرقابة والمحاسبة، هنا انتشر الفساد، وتحول إلى ثقافة تساهم الدولة في تنميتها من خلال قوانين وقرارات حكومية تطبق بمزاجية في المرافق الخاضعة لإدارتها وتحت سيطرتها، انتفخ الجهاز الحكومي بكم هائل من الموظفين دون عمل، وبلغ أقصى طموح للموظف أن يحصل على ختم يمنحه صلاحية الاستثناء، وكانت النتيجة طالباً ينجح دون أن يتعلم، ومعلّماً لا يُعلم، وموظفاً يترقى رغم أدائه السيئ، وشركة توظف كويتيين لمجرد تغطية النسبة المطلوبة، أصبح الفساد هو القاعدة في العمل، نتوقعه في كل مكان ونستغرب غيابه إن حصل، شهادات وهمية وقوانين تصدر دون مناقشة، خطط ومشاريع تنموية تخصص لها ميزانية ولا تبدأ وأخرى لا تنتهي، أصبحنا جميعا إما فاسدين أو في انتظار الفرصة لنفسد، لأن حياة الرفاه والفوائض المالية حجبت عنا التطبيق الخاطئ للنظام الديمقراطي بعد أن سيطرت عليه الأحزاب وذوو النفوذ والمصالح الخاصة فانسحب العقلاء وأهل الرأي عن الساحة، وتحول اقتصادنا إلى نظام تنحصر أهدافه في تسهيل حياة المواطن برؤية مستقبلية لا تتجاوز الانتخابات البرلمانية القادمة. مبادرات سابقة إننا بحاجة إلى مبادرة جديدة كالمبادرات السابقة التي تتشارك السلطة فيها مع أهل الرأي، بعيدا عن طقوس النظام الديمقراطي المشوّه، لإحداث تغيير جذري يهتم بتأهيل المواطن لتعود مكانته كعنصر أساسي يمكن الاعتماد عليه في تنمية الوطن بعد النفط كما كان الاعتماد عليه قبله. ومن حديث مستشار صاحب السمو د. يوسف الإبراهيم لصحيفة «وول ستريت جورنال» حين قال إن «الإصلاح يجب ألا يُفهم على أنه مجرد وسيلة لخفض المصاريف، وإنما لمساعدة المجتمع الكويتي ليغير من طباعه، ويتجاوز ما اكتسبه من عادات سيئة في عهد النفط والوفرة المالية، لتعود ثقته بنفسه وليفخر من جديد بإمكانياته الذاتية وبقدرته على الإنجاز والالتزام في العمل المضني»، وواضح أن الأمر ليس غائباً عن السلطة السياسية، فضلاً عن أن إضافة الحقيبة الاقتصادية إلى معالي وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، تعتبر خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح، لأنها بحقائبها الوزارية تلم بجميع الجوانب المطلوب علاجها سواء المتعلقة بتهيئة المجتمع الكويتي للمستقبل، أو تنظيم التركيبة السكانية وتنويع مصادر الدخل، لكنها في المقابلة التلفزيونية التي عرضت في بداية العام ذكرت أن مشكلة التركيبة السكانية هي أن نسبة الكويتيين لا تتجاوز 30 في المئة من إجمالي عدد السكان، وأن الفترة المطلوبة لزيادة النسبة إلى 40 في المئة قد تستغرق خمسة عشر عاما، بينما حاجتنا للوافدين سوف تستمر «بسبب خطط التنمية لأن شبابنا الذين سينضمون إلى قوة العمل لم يتم تأهيلهم لتغطية الحاجة». خلافي مع هذا الطرح أنه يحصر المشكلة في انخفاض النسبة، بينما الحقيقة أنه ليس في صالحنا أن تزيد نسبة المواطنين عن 30 في المئة، لأننا من بين سكان هذا الوطن أصبحنا الثلث المعطل للتنمية. الأقل تعليماً وثقافة وإنتاجية، والأكثر كلفة وعبئاً على موارده، لن تنفعنا خطة تنمية، لا يمكننا المشاركة في تحقيقها، ولن ينفعنا إصدار المزيد من القوانين والتشريعات، لأننا أثبتنا من خلال ما صدر مؤخراً من قوانين وقرارات تم إلغاؤها خلال أيام من صدورها أننا لسنا مؤهلين لذلك. لا مفر من الاستعانة بالوافدين، ولا يمكن أن نتخيل الكويت دونهم، ويجب عدم الاستهانة بأدائهم أو التعامل معهم على أنهم مؤقتون ودون مستوى المواطن، فالعدل في المعاملة واجب وضرورة للحصول على العطاء المميز من المواطن والمقيم، بعد سنين طويلة قضيناها بانتظار لجان وهيئات هدفها معالجة مشاكل المرور والبدون والإسكان والتعليم دون جدوى، تبرز الحقيقة التي علينا مواجهتها لصعوبة إخفائها، أننا لا نملك القدرة للعلاج، ولم يعد المال ينفع لتغطية العيوب. لذلك نكرر الدعوة إلى مبادرة جديدة ذات رؤية بعيدة بمستوى المبادرات المذكورة أعلاه، هدفها إعادة بناء شخصية المواطن وتهيئته تدريجياً ليتجاوز ما تعود عليه خلال خمسين عاماً مضت، من حياة سهلة خالية من الواجبات تجاه الدولة والمجتمع، أفقدته الرغبة في العلم والعمل. لقد تجاوز عدد السكان الأربعة ملايين نسمة، إجمالي حجم القوى العاملة تقريباً مليونان ونصف المليون، المواطنون منهم 345000 أو 14 في المئة، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد الراغبين في الانضمام إلى القوى العاملة خلال السنوات القليلة القادمة، لأن النسبة الأكبر من الكويتيين مازالت دون سن العمل، ولكنهم لن يكونوا مؤهلين لمنافسة الوافدين الذين يشغلون 86 في المئة من الوظائف، بل سيتجهون بمساعدة النواب للمطالبة بالعمل إلى جانب القلة من الكويتيين كي يتعلموا منهم ما لا يجب أن يتعلموه. المقيمون يبدو أن دول مجلس التعاون الخليجي قد بدأت في تصحيح نظرتها إلى المقيمين تقديراً لما يبذلونه من جهد خلال الفترة التي قضوها لديها، بمبادرة لإلغاء نظام الكفيل ومنح الإقامة الدائمة. نحن في الكويت لدينا ثلاثة ملايين وافد، منهم من عاش فيها سنوات طويلة، ملتزماً بقوانينها وعاداتها، لا يعرف الإضراب ودعم العمالة والمسيرات السياسية، سعيداً بحياته علّم أبناءه من جهده ورباهم على العمل الجاد المنتج، هؤلاء ربما يشعرون بالغربة في بلدهم الأصلي لأنهم تعودوا على الحياة في الكويت وأحبوها، إنهم مهندسون ومحامون وأطباء وممرضون ومعلمون وصيادلة، ومنهم النجارون والسباكون والكهربائيون، حاجتنا لهم لن تنتهي، لقد حان الوقت بعد هذه السنين، أن نعتبر كل فرد منهم مشروع مواطن، متي توفرت فيه شروط محددة تجعل في توطينه قيمة مضافة للمجتمع الكويتي، لقد حان الوقت لنقول لهؤلاء إننا نرغب في المحافظة عليكم في الكويت، نرحب بكم في بلدكم الذي قضيتم فيه معظم شبابكم وربما وُلِدتم فيه، منذ سنين وأنتم تكملون ما نعانيه من نقص، إننا بحاجة لكم ولأبنائكم ليساهموا في التنمية وبناء المستقبل كأبناء هذا الوطن، فقد خسرنا أعدادا كبيرة من الذين عملوا في الكويت وأحبوها وعاشوا وتربوا بها، ثم تركناهم يرحلون لتستفيد منهم دول أخرى منحتهم تقديراً أكبر لمؤهلاتهم وإنجازاتهم. أكره أن أنهي المقال باقتراح مشروع قانون بعد أن شككت في قدرتنا على إصدار القوانين المدروسة والنافعة، لكننا بحاجة إلى مواطنين من خارج الثلث المعطل للتنمية، يعيشون بيننا ويشاركوننا الحقوق والواجبات، يحفزوننا على العمل والإنجاز ويساهمون في خلق فرص جديدة للعمل تستوعب الأجيال القادمة، وهذا لن يتحقق إلا بقانون جديد للجنسية والإقامة يعيد تعريف المواطن الصالح الذي يحتاجه البلد، ويشجع الوافد كي يتحلى بسلوك يؤهله للحصول على الجنسية الكويتية.