الشعب العربي واحد من المحيط للخليج. ولكنه شعب موزع جغرافياً وتاريخياً، ولذا فهو شعوب عربية، يتمتع كل شعب فيها بخصائص لا تتوفر عند غيره، وشعره وثقافته العامة بدورهما يتمتعان بخصائص خاصة. هذا العامل هو الذي يميز الشعر الشامي عن المصري، وعن العراقي... الخ. أما حكاية انحسار الشعر ونقده في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي لا تُخطئها العين، فلا تريد الصحافة، ولا النقاد، ولا الجامعة الالتفات إليها التفاتة المعترف. والاعتراف يتطلب بصيرة حية، وهذه البصيرة انحسرت انحسار الشعر ذاته. إن هذه المراكز الثلاثة مشغولة دون هوادة بنشاط النشر، ودبج الدراسات على طريقتها الخاصة، التي عمقت بدورها هذا الانحسار. إن انحسار البصيرة هذا جاء وليد وهمٍ تلبّس وعي كثير من الشعراء ونقاد الشعر بأنهم يعيشون والغرب حضارة ثقافية واحدة. فإذا ما أصبح الغرب ما بعد حداثي، وتشكك بقدرات العقل، فلم لا يصبحون ما بعد حداثيين، ويتشككون هم أيضاً؛ غافلين، والغفلة بفعل انحدار الحياة العربية في جملتها، عن أن الغرب شاء أن يتشكك بعقلٍ بلغ، عبر قرون ستة، الذُرى، وإذا ما تشككوا هم فلابد أن يكون بشبح عقل جنيني، لم يُتح له أن يتنفس بعافية. فشتان بين عقل طاغٍ وآخر واهٍ أو متلاشٍ. كنت في الستينيات ألاحق المجلات الكثيرة، التي تعلن عن إصدارات الشعر ونقده: الآداب، شعر، حوار، المعرفة، العلوم، الأديب، المجلة، الشعر، الثقافة، الرسالة، الأقلام... الخ، وألاحق وأشتري بمسرة بالغة أكثر المجاميع الجديدة للشعراء: السياب، عبدالصبور، حجازي، البياتي، بلند الحيدري، نزار قباني، نازك الملائكة، يوسف الخال، خليل حاوي، سعدي يوسف... الخ. هذه الظاهرة تلاشت تماماً. تضاعفت الإصدارات، ولكن دون التفات من أحد، باستثناء الشعراء والنقاد الذين يلاحق بعضهم بعضاً. دخل النقد ما بعد حداثته براية المنتصر، وتكاتفت دور النشر جميعاً في البحث عن كتب، فرنسية على الأغلب، لا يُحسن القارئ العربي فهم حتى عناوينها. ولك ان تتصفح، على سبيل المثال فقط، منشورات «المنظمة العربية للترجمة»! وعلى هدى «البنيوية» و»التفكيكية» تأسست سلطة النقاد على النشر. وصارت الكتب تُباع على التباس العناوين. هذه الحقيقة يعرفها الجميع، ولكن ما من أحد يجرؤ على مجرد الاشارة إليها. كانت الصحافة أهلية، يُصدرها أشخاص، تجمعات أو أحزاب. ثم أصبحت منذ الستينيات تُصدرها المؤسسات الرسمية، تحت رعاية الدولة وتوجيهها. وشملت هذه الرعاية معظم الأنشطة الشعرية والنقدية؛ مهرجانات، ندوات، مؤتمرات، جوائز... الخ. كان يُشرف على الصفحات الثقافية صحافيون محترفون، لا يتزاحمون إلا مع صحافيين مثلهم، ثم صاروا، حين أطْلعت ما بعد الحداثة ثمارَها الوهمية، شعراء جميعاً. حين دخلت الجامعة/ آداب اللغة العربية، كانت في آخر مراحل عافيتها، وبالغة الضعف. ولكنها في العقود الأخير صارت بالغة القوة ولكن في الإفساد؛ فمعظم الأساتذة «ما بعد حداثيون»، دخلوا شرك البنى، والتناصات، والأنساق، وفرضوها على طلبتهم، وخاصة في الدراسات العليا. صار التراطن بلغة لا توصل إلى معنى هو المحك الأساسي. والآن شاءت هذه الحملة البائسة أن تنتفع من «جنس» أدبي genre ينتسب لذاته، شاء شعراء فرنسيون في نهاية القرن التاسع عشر ابتكاره، هو «قصيدة النثر». ولقد بقي هذا الجنس من الكتابة داخل باريس حتى ستينيات القرن العشرين، ثم اتسع لأميركا ولأوروبا فيما بعد. ولكن الشاعر حين يُعلن عن إصداراته يضع قصائد نثرهن كجنس أدبي، في خانة مستقلة عن نتاجه الشعري والنثري. قصيدة النثر، كما فهمتها الأجيال، وهي محقة في ذلك، تخلو من الوزن ومن القافية. إنها نثر يُكتب بذكاء، ويوزع على أبيات، شأن القصيدة الموزونة (لا أحد يعرف لماذا!!) فما هي الموانع التي تحرم الكاتب، أي كاتب، من أن يكون كاتب قصيدة نثر، أو بالأحرى شاعر؟ خاصة أن الجامعة، ووسائل الإعلام الثقافي والنقاد هم أصحاب السلطة الفعلية في التزكية، والنشر. «الشعراء» كثروا، بصورة فاضت على قدرات النقاد ودور النشر. هنا جاء الانترنت بأفقه الديمقراطي. ومع هذا الأفق تلاشى أي خيط ذي معنى يربط الشعر بقارئ الشعر. ولكن من يجرؤ على الحديث عن المعنى؟ يا للتخلف!