ليلاس سويدان | في أحد حوارات الناقد والروائي د. أحمد المديني يصف نفسه بـ«الكاتب النبّاش» الذي يحتاج أن يذهب إلى الأشياء التي يعتبرها الناس مرمية ولا قيمة لها، ويعمل فكره أو خياله داخلها، فيستخرج منها ما يجد فيها ويعيد صقله للناس. من اللافت في السيرة الإبداعية للمديني تنوع نتاجه الأدبي بين النقد والرواية والقصة القصيرة والترجمة وأدب الرحلة والشعر، رغم أنه لا يعتبر نفسه شاعرا كما يقول. تجربته الطويلة والكبيرة في مجال الأدب والنقد بوابة أسئلة كثيرة حاولت اختصارها ببعض التساؤلات التي تلقي الضوء على رأيه في الرواية بالمجمل، والرواية المغربية خصوصا والقصة القصيرة وأمور أخرى. ◗ قلت في حوار سابق معك، ان الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر ملاءمة للمجتمعات العربية، في زمن التبلور الحضري. كيف ترى، إذن، وضع القصة القصيرة وقدرتها، بالمقابل، على أخذ مكانتها في بيئتنا الثقافية، وذائقتنا الأدبية؟ – نعم، الرواية هي الجنس الأدبي الأوثق صلةً، الأنسب للتعبير عن الحاضرة the city والمجتمع الحضري، منذ نشأتها وإلى اليوم، لما يحفلان به من بشر بمصالح وأزمات وصراعات، يواجه فيها الفرد، ضمن تحولات سوسيو اقتصادية جذرية، مصيرا، ويعيش في أوضاع غير مسبوقة، هي بنت المدنيّة الحديثة. هي ذاتُها، أو قريب منها ما تدرّجت فيه بعض المجتمعات العربية، انتقلت فيها البطولة لطبقات جديدة، شبه رأسمالية، ووسطى، بدل الإقطاعية والفلاحية القديمة، فاحتاج الأدب لتعبير مختلف ينقل صور التحول، ومخاض وتجليات المشهد المستجد على شتى الأصعدة، المجتمع، اليومي، الثقافي، سلم القيم، العلاقات كلها، وفرد يخرج من قمقم تاريخ عتيق، ليتقدم في خط آخر، مصطدما بالمجهول أكثر من المعلوم، شأن كتابة، سرد انطلق بدوره يتعلم، يجرب كيف يصف ويشخص زمانا في سيرورة. لا تكون الكتابة إلا بوعي شروط زمانها، واستيعاب الكُتّاب العميق لهذه الشروط، والقبض، بعد امتلاك فنية الجنس الأدبي، على رؤية الواقع ضمن العصر، وبأسلوب متفرد. الشأنُ نفسُه بالنسبة للقصة القصيرة، بل هي، كانت وتبقى، أصعبَ وأعقدَ من فن الرواية، لذلك يمهَر فيها قلة، يتقن مُعتَركها، ويُجيد تلقّيها أقل، هي فن الندرة، والنادر نخبويٌّ وثمين، وذا هو الفن الأصيل والرفيع، ليس أبدا مشاعا، ولا ينبغي أن نحتكم فيه لآليات سوق عابرة، كما هي غالبة حاليا في «بازار» أدبنا العربي الحديث. ثمة زعمٌ أن الرواية أضحت ديواننا الجديد، إنما الغلبة فيها، للغث، للخواطر، والثرثرة، والتقارير السياسية، وإقحام الخطابات من كل نوع، وغياب الحبكة المركبة، فضلا عن إسفاف الحكايات ونمطية الأوضاع، وخصوصا غياب المشروع المنظم، المسترسل رؤيةً ووعيا وفنا وأسلوبا كما يليق باسم الروائي. لذا، في الرواية كما القصة القصيرة، ليست الغلبة للسوق، للرائج والمروّج، لكتابة الطفيليات والطحالب، لن يبقى منها شيء، لن يسجلها تاريخ الأدب ولن ترقى للكلاسيكية. ليحتفل من شاء وكيفما يشاء بما يثار من هرج، بتجارة دور نشر تحولت إلى دكاكين للورق، تفسد الذوق الأدبي العام أكثر من فسح المجال، هي ومحيطها، للأدب الأصيل. الرواية المغربية◗ لك رأي بأن الرواية في المغرب العربي ما تزال «فتية»، عمرها بعد نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، تحديدا المكتوبة بالعربية. كيف ترى نموها وتطورها مقارنة بالرواية المشرقية، وقدرتها على منافستها في جوائز أصبحت عند البعض مجال «تنافس» أدبي؟ – أجل، ذاك ما قلت، وما زلت أقول به. عمر الأدب الحديث مغاربيا لا يتعدّى نصف قرن، إذ التأريخ والعبرة في الأدب والثقافة عموما ليسا للبواكير، لمرحلة التعلم learning، وإنما لما يتراكم وينتظم، ويبرز خصوصا ناضجا، نصوصا مؤهلة إبداعيا، ومتمثلة لروح زمنها، وأصوات مجتمعها، وفردية كتابها، وتندرج في خط تجنيس أدبي مسترسل، ومتصل أيضا بآداب أخرى. غربية ومشرقية عربية، هي مصدر استلهامها الأول وتأثرها في بداياتها البسيطة، وتجارب تفتحها، ثم لا جدال أن رواية المغرب العربي أضحت اليوم جزءا حيويا وتمثيليا مهما في متن الرواية العربية ككل، وأنا لا أقول بأنها تنافسها أو دونها، أو تتفوق عليها، بل هي بتجارب محددة، وعند كتاب معدودين فقط، نعم، في طور امتلاك صوتها الخصوصي، والتعبير عن تاريخ ومجتمع وسِير شخصية ومصائر إنسانية متفردة، بطرائق فنية وأساليب محكمة، من صميم مرتبة الأدب وطموح للتجريب والتجديد صارا معلما لها. أما الجوائز فهي ظواهر موسمية، والناقد، والدارس الأدبي لا يحتكم لها إطلاقا لدى التقويم، تذهب بذهاب ظروفها، فيما النصوص الأمهات، فازت أم لم تفز، باقية، حين تنتهي الفرجة!. أدب وبوح ذاتي◗ انتقدت الروايات المنتشرة حاليا، ووصفتها بأنها مجرد سير وبوح ذاتي. لماذا برأيك يعجز الكاتب عن أن يحول تجاربه إلى موضوع بدل أن تتحول الذات إلى موضوع؟ – سؤالكِ من الوجاهة بمكان، لعمري يثير كثيرا من الأشجان. ذو شقين: واحد يختص بكيف تكوّن العمل والعملية الأدبية، والثاني نقدي، بواسطته بمكن للناقد مساءلة وتقويم هذا العمل. في الحالتين هو ميزان. ما بتنا نفتقد إليه، ولا نعثر عليه إلا لماما، أمام سيل ما يُنشر من روايات، قليل منها حق، وكثير جدا باطل في باطل. والسبب،أولا، عدم معرفة ما الموضوع الأدبي وتمييزه من أي موضوع. ثانيا، ما يتطلبه ليصبح كذلك بواسطة تشكل خصوصي له. ثالثا، وهو من صلب مسألة التجنيس، قبلية وبعدية، بدؤها حدس وتمثل لأدوات وتطبيق، وتاليها تلقٍّ يأخذ ويصنِّف ويقوِّم بعد أن يثق، ثقة مركبة ومعقدة بنجاح كيماء تكوين العمل. لا يمكن لعملية كهذه أن تحصل مع إنشاءات تحسب إرسالَ الكلام على عواهنه في شطحات تأسيسا لخطاب روائي، والبوح المنفلت عن شخصية من قلب إحساسها في موقف وضمن فعل محدد، منسجم مع حركية سردية هي البناء كله ومقتضى رؤية وتصور لمحكي وهو يفعل، أي في مدار حكي وتصوير، ونقل لما كان في الأصل ذاتيا شخصيا، أو عاما عموميا لينتقل إلى صعيد التذويت الموضوعي. ليس كل ما عشناه أو نعيشه مادة سردية، أو يقبل السرد كيفما اتفق، أو لأن كاتبا غفلة أو استغفالا، هو وناشره، جنّسا نثره، بوْحَه، (نحتاج إلى تعريف البوح، وهو مقام ثقافة لا يعذر الكاتب لجهله بها) الموشّى بالمحسنات والمسقي بماء الورد، وكم آه، وآه، واستيهامات خارج السياق، سياق السرد، خطيا جاء أو استرجاعا. نعم، اللغة أداة الأدب الأولى، إنما لينتقل النص/ الكتابة إلى الأدبية يحتاج أن يتحقق بوسائط. ليست اللغة ما يكتبنا، بل نحن من نكتب ونسيطر ونوجه ونُجمِّل وفق المقام والمقال، لذا الشعر غير النثر، والنثر أنواع. وما كل سيرة وبوح سيرة ذاتية، ولا تخييل ذاتي مزعوم قد ينطلي لعجز صاحبه عن الانفصال عن ذات متورّمة، لن تصنع وتتّقدَ أدبيّا إلا إذا خفت جمرها تحت الرماد، رماد خبرة بالمعرفة والتجربة، والتجربة جماعُ الكلِم، مقودُها الموهبة. غارات شعرية◗ مع أنك أصدرت ثلاثة دواوين شعرية، إلا أنك تقول «لست شاعرا محترفا». كيف تصف علاقتك بالشعر؟ – لست محترفا بمعنى أنني لا أكتب الشعر وحده، وأكرس له جُل إحساسي وهمي وعُدّة التعبير. يحدث أن أقوم بما يشبه «غارات» شعرية لا أتحكم فيها، كما يقع مريض ضحية الصرع. الشعر غالبُه يأتيك، ولا تذهب إليه، ثم تعمل على التشذيب والتطريز خلال أو بعد. الشعر حافزُه ذاتيٌّ مطلقا، واللغة، والموسيقى، والاستعارة، والإحساس العالي، عناصر ترفعه إلى صعيد كينونة الانسان. صرت أميل إلى تضمين كتابتي السردية مقاطع شعرية كاملة يفطن لها القارئ اللبيب، أو أنقع النثرَ بالمسحة الشعرية. كما أني لم أنقطع عن كتابة نصوص شعرية، سيصدر لي منها شيء قريبا عن دار توبقال المغربية. لا أخفيك بعد هذا أن ما بلغه بعض الشعر من تهافت، وإسفاف، وجفاء لأصول قوله، وفصله، حتى صار على كل قلم ولسان، ما كنا ونحن تلاميذ في صفوف الإعدادي نأتي بأفضل منه، ونخجل من إطلاع كبارنا عليه، أصبح هو السلعة الرائجة، بارت بالطبع، جنت على الشعراء الحقيقيين، وجعلت عالي بضاعته سافلها، أخشى أن يستفحل هذا البوار ويمتد إلى الرواية!. مسارات إبداعية◗ لك مسارات إبداعية «قصة، شعر، رواية، أدب رحلات» إضافة إلى النقد والبحث الأكاديمي. كيف تتقاطع عندك هذه المسارات في لحظة الكتابة؟ – لا، إنها لا تتقاطع. لكل كتابة نوع؛ ماؤه ومجراه وطعمه، وهذا مرده تكوين مركب. هي عندي بالأحرى لا تتعارض. ما هو أدبي، إبداعي صرف، يتخذ لبوسه، هيئته وطرزَ جماليته، وفق جوهر الإحساس، المعنى، ومرمى القول، كل كتابة لها منبع وإلى مصب. والنقدي، الأكاديمي، من أصل تكوينه، وحرفة صاحبه، وهذا يغذي ذاك ويفطّنه، وأنا ممن يؤمنون بقيمة ونجاعة الثقافة سندا للروائي والشاعر وكل مبدع، لا غنى عنها هي والموهبة. علينا ألا نغفل بعد هذا وذاك، أن فن القول بأجناسه، والنقدَ والبحثَ نظام، كل شيء في هذا العالم محكوم بنظام، إما من خالق أو مخلوق، نظام الحياة جزء من عمل الكتابة، ولن تصل إلى هذا جزافا، إنما بالتجربة، بالثقافة، والخبرة، والمثابرة، بالانغماس في الحياة حتى النخاع، السرّاء منها والضراء، ثانيها أكثر وأكبر، نحن جيل السبعينات عانينا منها الأمرين، حتى طوّحت ببعضنا إلى الغربة والمنافي، عسى نعرف كيف نقول بحرية. إذّاك، ربما نصل إلى وضع «الكاتب الكلي»، هكذا يسميني صديقي الروائي المغربي عبدالقادر الشاوي. ◗ حدثنا عن آخر رواياتك «ظل الغريب». – هي آخر ما صدر بعد «ممر الصفصاف»(2015) وضعت فيها زبدة حياة ومعيش لآخرين، ودراية بالفن الروائي، كما طوّعته أقلام، زدت إليها قلمي، جعلَتْه فنَّ هذا الزمن بلا منازع. رواية إنسان بؤرتها مكان، وأحداثها هجرة وترحال، بحثا عن مصير شاق ومأمول. وهذه مناسبة لأرحب وأدعو زملائي والقراء كافة للإقبال عليها، يقينا لن يخيبوا، ففيها عجب.