×
محافظة المدينة المنورة

«المدني» يحذر من أمطار غزيرة

صورة الخبر

يرى بعض علماء النفس أن كثير من الأمراض النفسية هي نتيجة لعدم ملائمة التصورات الذهنية للفرد لواقع عالمه الخارجي مما يخلق صراعا دائما بين الفرد وواقعه يتدهور معه وضعه النفسي فينتقم تدريجيا إما من نفسه أو من المجتمع من حوله. ويشمل العالم الخارجي الأمور المادية والاجتماعية. وقد يعيش فردا، أو تكون جماعة، غير متوافقة مع الواقع وعي لا تعلم ذلك مما يصعب من إمكانية مقاربة تصوراتها مع حقيقة عالمها. وهذا يأخذنا إلى الجدل المعتاد حول التباين الكبير بين المعقول والمحسوس. فالمحسوس هو ما يُتصَور لنا عن أنه وجود مادي مستقل عنا في العلم الخارجي المادي، والمعقول هو الصورة الذهنية لهذا الشيء، واليوم نعرف بشكل شبه مؤكد أن نظرتنا إلى للعالم الخارجي لا تكون بشكل مباشر، وهي ليست رؤية للحقائق كما هي، بل إن إدراكنا للعالم الخارجي غير مباشر ويتم بشكل انتقائي وحسب تصوراتنا عنه. فالمؤثرات الخارجية التي تصادفنا في حياتنا اليومية مهولة وغير محدودة وما نراه منها هو ما تسيرنا عقولنا نحوه، أي أنه، وعلى عكس ما هو معتقد، أفكارنا هي التي تحدد إدراكنا لا العالم المُدرك الخارجي. والمفردات الذهنية التي نحملها في أذهاننا هي التي تنظم العالم غير المنتظم حقيقة من حولنا. وبعضها متوراث عبر آليات كثيرة من أهمها اللغة. والأخطر من ذلك هو أننا نتواصل فيما بيننا، ونتبادل خبراتنا عن واقعنا بمفردات ذهنية فقط، لكننا دائما نخال، بل أحياناً نجزم، أننا نتكلم عن الأشياء المحسوسة ذاتها كما هي، الأشياء التي لا تتغير، ومعروف أن الطبيعة والعالم لا تتغير، أو فلنقل طبيعتها واحدة، والذي يتغير دائماً هو تصوراتنا عنها، وتطور معرفتنا بها، وهذه آلية تطور العلوم والثقافات. وتصوراتنا تتغير تدريجياً بمقدار تطور فهمنا وتفاعلنا مع ما هو جديد. وبعض المفردات الذهنية الرئيسة في ثقافتنا، تلك التي تخلق التصورات لدينا عن العالم الخارجي تتسم بصفة الثبات وتغييرها أحياناً يأخذ وقتا وجدهاً كبيرين لأنها أخذت وقتاً طويلاً لتتبلور، وارتبطت بواعطفنا فازداد تصديقنا بها وتحولت لقناعات لا تتزحزح بسهولة. والإنسان بطبعة بأشد الحاجة لقناعات تحفظ له توازنه النفسي، وتطمئنه وتحسسه بالأمان والاطمئنان لا سيما إذا أحس أن الآخرين يشاطرونه القناعات ذاته. ولذا قد يتغير العالم في الخارج بينما تحتم ضرورة التوازن النفسي للإنسان الثبات وإنكار هذا التغير والإصرار على أن العالم هو كما خبره وإلفه. . وعندما تكون هذه التصورات متوارثة وراسخة بشكل كبير يتحول الصراع الداخلي إلى صراع مع الواقع الخارجي، لأنه يحاول تكييف الواقع الخارجي لتصوراته الداخلية لا العكس. والخلط في المقولات والتصورات قد يحدث في الحياة العامة أيضاً، ويسبب كثيراً من الجدل والنقاش أو حتى الصراع العنيف. ولو أجلنا النظر في ما تمر به امتنا من تجاذبات وصراعات لألفيناها صراعات حول قناعات توارثناها عن عصور سابقة بعضها من قرون طويلة على شكل مسلمات لا يمكن التخلي عنها رغم أن العالم برمته تغير بشكل جذري وتجاوزها. وكثير من هذا القناعات المتوراثة أثبت العلم والتاريخ والتجربة عدم صحتها، ولكن البعض منا يعمد إلى تخطئة العلم على تغيير تصوراته المتوارثة عن العالم. والجميع يعرف إعدام الكنيسة للعالم الإيطالي قاليليو الذي قال في عام 1616م بدوران الأرض حول الشمس. وكثير مما تقتتل حوله اليوم الطوائف والمذاهب والجماعات الإسلامية اليوم هي تصورات قديمة من الماضي لا تمت لعالم اليوم بصلة، ولكنها قناعات متوارثة أضافت لها الأجيال المتعاقبة بعداً ميثولوجياً دوغمائياً يقبل التصديق فقط ولا يقبل التمحيص. مفاهيم مثل الفتنة الكبرى، دم الحسين، اغلولي الفقيه، ولا شك أن جماعات مثل القاعدة، وداعش وحزب الله وغيرها تعيش ضمن تصورات لا تتوافق مع قيم العالم الحديث ولذا فهي تعيش دائما أجواء تصادم معه ومع بعضها البعض الآخر. فَهَبْ مثلاً، أن رجلاً من العصر الأموي أو العباسي، حيث لا ماء، ولا بنايات، ولا كهرباء، ولا سيارات، ولا طائرات ولا مطارات، ولا قطارات بعث من جديد في مدينة كطوكيو، أو نيويورك فهل يمكن تخيل الصدمة الحضارية والذهنية التي قد يصاب بها؟ من المؤكد أنه سيعتقد على أقل تقدير أنه بعث في دنيا غير الدنيا الذي ألفها والتي في تصوره. وسمعت حكاية عن بدوي كان يسير على جمله في الصحراء فشاهد سيارة لأول مرة وتحتها مهندس غربي ذو بشرة بيضاء خلع ملابسه من شدة الحر، فاقترب من السيارة مذهولاً وأخذ يحرك رجل المهندس بعصاه ويلامس بها قدماه ليختبر ردة فعله ويختبر ماهيته لأنه تصور أن الرجل الأبيض المتعري ليس من جنس البشر. وتكلمت سيدة مسنة من جزر المارتينيك واصفة راهبا أبيض دخل بها حين وفود أول دفعة تبشيرية، بأنها تأكدت من إنسانيته فقط عندما تأكدت أنه كرجال قريتها. وهناك تجارب على أناس مبصرين (عمي) أجريت لهم عمليات تصحيح قرنية بعد أن تجاوزت أعمارهم العشرين وثبت لأنهم لا يستطيعون التثبت من العالم من حولهم لأنهم لا يملكون تصورات ذهنية عنه. فالذي يحدث مع من يتوارثون أحكاما مسبقة عن العالم، وينزلونها منزلة العقائد هو العكس من صاحبنا العباسي الذي بعث في عالم اليوم، فهو ولد في عالم اليوم ولكنه لا زالت لديه تصورات ذهنية عنه تنتمي لعالم الأمس. فهؤلاء يعيشون ضمن تصورات ملتبسة ودائمة التوجس من العالم الذي حولهم ومن كل ما هو جديد. فقد تجدمن لم يسبق أن غادر المملكة لدولة خارجية، أو غربية، ولكنه يتكلم بلهجة شبة موقنة بأن كل ما هو في الخارج عالم فساد، وكفر، ومجون، ليس ذلك فحسب بل إن كل من يسافر للخارج يتحول تلقائياً إلى منحل أخلاقياً. ومن الطريف أن الفئات التي تعيش ضمن تصورات مشابهة في الغرب ترى الشيء ذاته في الشرق، فالشرق بالنسبة لهم مجرد من الإنسانية، وهو عالم متحلل من الأخلاق لا يعرف إلا الجنس والجواري والمخدرات، واليوم يصنف كل من له مظهر شرقي أو إسلامي، مهما كان صالحاً، على أنه إرهابي من قبل بعض المتطرفين الغربيين. وقديما كان يقال لكل زمان دولة ورجال ودول ورجال اليوم لا يمكن أن تستمر بعقليات وتصورات الأمس.