فالموقف الرسمي الحالي متحالف مع "إسرائيل" وقبرص واليونان، وفي مواجهة وعداء معلن ضد غزة وليبيا والسودان، وهذا التوجه الرسمي يجعل مصر وكأنها انقلبت على أمتها وانحازت إلى أعدائها. يعتبر الملف الليبي من أكبر الملفات الخاسرة، ويبدو الدور المصري خادما للإستراتيجية الغربية على حساب الدولة المصرية، وكما هو معلن فإن المحرك الأساسي للسياسة المصرية هو الموقف العدائي تجاه ما يبدو من توجهات إسلامية في حركة التغيير الليبية دون النظر لمصالح الشعبين المصري والليبي. ليبيا بالنسبة لمصر ليست كأي دولة، فهي عمق مصر الغربي، وأحد أضلاع المثلث الذهبي الذي يضم معهما السودان، وهذا المثلث لو تكامل سنرى أقوى كيان عربي، يغير كل التوازنات بالمنطقة، وسيكون نواة لأهم وأكبر تكتل سياسي في قلب العالم الإسلامي. المثلث الذهبي سيحل كل مشكلاتنا الاقتصادية ويعيد التوازن للمنطقة؛ فليبيا بها البترول والمنتجات النفطية، والسودان به الأراضي الصالحة للزراعة، ومصر بها القوة البشرية الهائلة التي تبحث عن متنفس لها ومجالات تستوعبها.معاداة الشعب الليبي بعيدا عن الأمنيات التي ننتظر تحققها فإن ليبيا كانت هي الوطن الثاني لملايين المصريين الذين خرجوا من ضيق الوادي وعاشوا وسط الليبيين كأخوة لهم، وتشير التقديرات أن عدد المصريين في ليبيا قبل الخلافات الأخيرة كان يتراوح بين مليونين و 4 ملايين نسمة، وهو رقم ضخم بالمقارنة بعدد الليبيين الذين يصل عددهم إلى 5 ملايين نسمة، وهذا العدد الكبير عاش بدون مشاكل بسبب روح الأخوة والانسجام وحالة التشابه في الطباع وعلاقات النسب والمصاهرة بين الشعبين. ليبيا هي الشريك التجاري الأقرب، وكانت تحويلات المصريين العاملين في ليبيا مصدرا مهما من مصادر العملة الصعبة، ولعبت الاستثمارات الليبية في مصر دورا تنمويا مهما، وكانت أفضل من كثير من الاستثمارات الأجنبية التي لها أهداف أخرى، فضلا عن أن ليبيا كانت مفتوحة أمام العمالة المصرية بدون تأشيرة وبدون أي عقبات كالموجودة في دول عربية أخرى، أي أن ليبيا كانت امتدادا طبيعيا لمصر. لا يمكن لأي مخطط استراتيجي أن يتجاهل كل الحسابات الاقتصادية والاجتماعية والدينية ويضحي بمصالح الشعبين والتعامل مع ليبيا كعدو بسبب الخلاف السياسي، أو بسبب الانخراط في استراتيجية دولية تعادي الثورات، وترفض التغيير الذي قد يأتي بحكومات لها صبغة إسلامية! ليس من المصالح العليا أن تقف السياسة الرسمية المصرية ضد ثورة الشعب الليبي وحلمه في تشكيل الحكومة التي يريدها، ويأتي الانحياز المصري للجنرال الليبي خليفة حفتر والوقوف بكل ثقل الدولة المصرية خلف ورقة محروقة ليشعل نارا في البلد الشقيق لا يجلب مصلحة وليس من ورائه خير والتضحية بمصالح منظورة وغير منظورة. استقرار ليبيا مكسب للمصريين وليس فقط للشعب الليبي، وحتى لو كان النظام السياسي الجديد غير متوافق مع الإدارة الحالية في مصر فمصالح الشعوب لها الأولوية، فالأنظمة تتغير وتذهب، والشعوب تبقى، وروابط الدم والقربى فوق الخلافات السياسية، تحكمها ثوابت التاريخ والجغرافيا والدين واللغة.مشروع حفتر ليس له مستقبل مشروع حفتر ليس له مستقبل ومن يراهن عليه تنقصه المعلومات على الأرض، فلم تعد الظروف مهيأة لعودة نظام القذافي بالصيغة القديمة، ولا توجد إمكانية لإعادة واستنساخ نظام قائم على القوة العسكرية النظامية في ظل انتشار السلاح في أيدي الليبيين، ويمكن تلخيص عوامل فشل الرهان على مشروع حفتر في النقاط التالية:ليس لحفتر أي نفوذ في غرب ليبيا، الذي يخضع للسيطرة الكاملة لحكومة متماسكة تمثل ثوار 17 فبراير، الذين ينتمون لمدن وقبائل الغرب الليبي، وهم الذين خاضوا معارك متواصلة منذ إسقاط القذافي وحتى الآن.حفتر ينتمي لقبائل الفرجان التي تنتشر في وسط وغرب ليبيا وليس له امتداد قبلي في منطقة الشرق الليبي التي يقيم فيها، فهو يقيم في مدينة المرج وهي مدينة صغيرة يعيش فيها كغريب وليس من أبنائها، مع ملاحظة أن قبائل الفرجان تقف مع الثورة.ما يطرحه من صيغة حكم عسكري استبدادي لا يحظى بشعبية جماهيرية، والبيئة الاجتماعية غير منسجمة مع النزعة الفردية الديكتاتورية، خاصة أن البداوة هي الطابع الغالب على المنطقة الشرقية ومن المعروف أن البدو يكرهون التسلط.ممارسات حفتر القمعية في شرق ليبيا واستخدام سياسة الاعتقالات والاغتيالات لمعارضيه الذين ينتمون لقبائل كبيرة لفرض سيطرته تسبب في انفضاض الكثير ممن التفوا حوله وظنوا أنه المخلص، وبدأت تظهر في الآونة الأخيرة حالات التمرد في مدن الشرق الرئيسية.لا يفرض حفتر سيطرته على كل الشرق الليبي، فمدينة درنة خارجة عن سيطرته ولم يستطع إدخالها في طوعه، ولم يستطع السيطرة على مدينة بنغازي عاصمة الشرق، والتي دمرها بالقصف الجوي والأرضي، ويعتمد فيها على بعض الصحوات التي ارتكبت جرائم وفظائع تسببت في تهجير عشرات الآلاف من سكانها الذين يقيمون الآن في مصراتة وطرابلس وغريان وغيرها.عدم قدرته على الاحتفاظ بالهلال النفطي، ولم يستطع الاستمرار في السيطرة على مدن تصدير النفط في وسط ليبيا، والتي كانت تعطيه ورقة مهمة أمام العالم الخارجي وابتزاز دول الغرب للقبول به زعيما لليبيا.يعتمد حفتر على الدعم العسكري الخارجي خاصة سلاح الجو الذي يتدخل لوقف زحف معارضيه بين مدن تفصلها مسافات طويلة في الصحراء المكشوفة، وبدون هذا الغطاء الجوي لن تصمد الميليشيات التابعة له أسبوعا واحدا، وهذا السلاح لن يستمر طويلا، خاصة مع عجزه عن حسم المعارك العسكرية وفشله في الوصول إلى حل سياسي.فرنسا وإيطاليا والتنافس الدولي رغم توافق الدول الغربية على ما تسميه " الإرهاب الإسلامي" فإن الصراع في ليبيا يدور بشكل أساسي بين فرنسا وإيطاليا، وتساند الولايات المتحدة إيطاليا بسبب التنافس الأمريكي الفرنسي في إفريقيا، ومن جهتها تريد فرنسا السيطرة على إقليم فزان بجنوب ليبيا للحفاظ على نفوذها في تشاد والنيجر ودول الساحل والغرب الإفريقي، أما إيطاليا التي تعاني اقتصاديا فهي لا تريد التفريط في مستعمرتها السابقة والتنازل عما تراه حقوقا تاريخية لها! الدور المصري في ليبيا في ظل التنافس الدولي محدود، وورقة حفتر كانت ضرورية لفرنسا والدول الغربية لصناعة طرف ثان للضغط على قوات فجر ليبيا عندما سيطرت على معظم الأراضي الليبية وكادت أن تصل إلى طبرق، وكان الهدف من تقوية حفتر عسكريا الضغط على السياسيين في طرابلس والغرب الليبي للجلوس على مائدة التفاوض. وتحقق للدول الغربية ما أرادت، حتى تم التوصل إلى اتفاق برعاية الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات المغربية أسفر عن تشكيل حكومة ثالثة غير حكومة طبرق في الشرق المحمية مصريا بدعم فرنسي وحكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل التي تحكم غرب ليبيا. اليوم يوجد في ليبيا 3 حكومات، الأولى: حكومة السراج التي رعتها الأمم المتحدة ولكنها لم تحظ بالقبول من الليبيين، وهي معزولة في قاعدة عسكرية بحرية في حماية ميليشيات مسلحة وابتلعت معها الأحزاب التي شاركت فيها، والثانية: حكومة طبرق وهي تعاني من التفكك وغير قادرة على السيطرة على الشرق الليبي، والثالثة: هي حكومة الإنقاذ في طرابلس التي تحظى بالتأييد الشعبي الواسع لتماسكها السياسي والعسكري ويساندها الشيخ صادق الغرياني مفتي ليبيا. دول الغرب رغم ما بينها من خلافات فإنها تعمل على تجنب الاعتراف بالحكومة في طرابلس، ولكن كل محاولاتهم قد فشلت، فتقوية حفتر عسكريا فشلت في السيطرة على المنطقة الشرقية وتتعرض جبهته لانشقاقات وتصدعات، ولم تحقق حكومة التوافق التي شكلتها الأمم المتحدة وجمعت عليها توقيعات الأحزاب وعمداء البلديات أي نجاح، وهي الأخرى في طريقها للتلاشي وبدأ أعضاء المجلس الرئاسي الذي تم تشكيله يستقيلون واحدا بعد الآخر. ومع ضعف البدائل التي تقف خلفها الدول الغربية فإن حكومة الإنقاذ التي تمثل قوى الثورة الليبية تزداد قوة وتماسكا يوما بعد يوم، وتتحرك على أرض ثابتة، وآخر مفاجآتها تشكيل الحرس الوطني وتغيير شكل التشكيلات المسلحة التي كانت تعبر عن كيانات جهوية، إلى كيان واحد لحماية الدولة الليبية، وهذه الحكومة هي التي ساندت الحملة العسكرية الأخيرة على الهلال النفطي وطرد قوات حفتر وقلبت الطاولة من جديد. حكومة الإنقاذ هي الطرف الأقوى في ليبيا، وفي يدها مفاتيح الحل لمجمل الملف الليبي، ولهذا بدأت القوى الدولية تتواصل مع نخبة طرابلس رغم ما يبدو من عدم الاعتراف، وحثي الروس الذين لجأ إليهم حفتر يطلب دعمهم ذهبوا إلى أعيان مصراتة ونخبة طرابلس يبحثون عن صيغة للتعاون مع حكام ليبيا الجدد ويبدو أنهم يخشون تكرار تجربة سوريا التي تمثل كابوسا مزعجا لهم رغم كل ما يبدو من هدوء مؤقت.*** ما يجري في ليبيا يؤكد أن الرهان على حفتر رهان خاسر، ومن يبني سياسته على تمكين جنرال متقاعد ليس له جيش ولا يملك قاعدة شعبية من حكم ليبيا كمن ينتظر اللبن من عش الغراب، فعجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء وتكرار تجربة القذافي مجرد أوهام وأضغاث أحلام، وستثبت الأيام أن الذين ساندوا حفتر تم توظيفهم لخدمة الإستراتيجية الغربية لعرقلة حركة التغيير في ليبيا، والتي ستصل لا محالة إلى محطتها الأخيرة، وسيفرض الليبيون إرادتهم في النهاية بقوتهم الذاتية ويتغلبون على المكر المعادي.