حين أحدث أولادي عن ذكرياتي الخاطفة في بغداد قبل أن تتحول إلى عاصمة للسيارات المفخخة تلمع في أعينهم الصغيرة دهشة تجبرني على التوقف في منتصف الحديث فهم مستعدون لتصديق كل الأفلام الخيالية في هذا العالم ولكنهم لا يستطيعون تصديق أن هذه المدينة العظيمة كانت مزدهرة بالحب والعلم والطرائف والأفكار والأشعار والأحلام!. نفس النظرة الطفولية المشككة ستكون حاضرة لو حدثتهم عن ذكرياتي في دمشق التي تعيش اليوم مأساة إنسانية تاريخية استخدم فيها الديكتاتور كل الأسلحة ضد شعبه بما في ذلك الأسلحة الكيماوية، وبرغم إيماني بأن الحق لا بد أن ينتصر وأن جزار دمشق لابد أن يلقى جزاءه العادل في يوم من الأيام إلا أنني لا أظن أن عاصمة الأمويين سوف تعود كما كانت في وقت قريب، بيروت أيضا ليست بعيدة عن دوامة الذكريات الغابرة، كيف تكون بعيدة وهي دوما على خط تماس الذكريات؟، لا نصدق أن نلقاها ونفرح بلقياها حتى تغيب في دوامة التفجيرات مجهولة المصدر معلومة النوايا، كنا نستمع إلى ذكريات الجيل الذي سبقنا حول نهارات بيروت التي لا تتكرر فنتعاطى معها وكأنها حكايات من التراث لأن المدينة حينها كانت تحترق بنيران الحرب الأهلية التي ما كنا نظن أنها سوف تنتهي في يوم من الأيام وما إن عادت بيروت فاتنة الشرق وملتقى الحضارات حتى تعالت من جديد صيحات الاقتتال في الداخل والخارج. المخيف أنه شيئا فشيئا سوف تمر السنين لأعيش أنا وكل أبناء جيلي وكأننا قادمون من عصر آخر أو حياة أخرى حيث نحدثهم عن مدن وبلدان وشوارع وشخصيات لم يعد لها وجود على أرض الواقع أو أنها بصورة أدق موجودة ولكنها تختلف جذريا عن تلك البلدان والأماكن التي نحدثهم عنها حتى لو حملت نفس الأسماء والمعالم، سيكون الفارق شاسعا بين رواياتنا الخيالية عن مدن تعج بالحياة وبين صور الواقع لمدن يتدفق الموت في كل حاراتها، مدن كانت مزدحمة بالنشاطات الاقتصادية والثقافية والسياحية لم يعد يمارس فيها الناس اليوم إلا نشاطا واحدا هو تشييع الجنائز!. واليوم أفقت من النوم وأنا أحمل صخرة عظيمة من الهم والغم في صدري، لا أدري لم صور لي الشيطان أن مصر – حماها الله – يمكن أن تكون واحدة من هذه البلدان التي نروي لأولادنا حكايتنا فيها فلا يصدقون أنها كانت دارا للحب والفرح والمرح والأمن والبساطة والحنان وذلك بسبب بشاعة الصور المنقولة عنها في نشرات الأخبار، كل شيء جائز.. فحجم الاستقطاب مخيف وفرص الجلوس إلى طاولة الحوار تكاد تكون معدومة، ومفردة (المصالحة) بالنسبة لبعض الأطراف أصبحت تعني القبول بالهزيمة!. لقد بقيت مصر لآلاف السنين أرضا للسلام وملاذا آمنا لمن جار عليه الزمان، كانت دائما وأبدا جزءا رئيسيا في حياة كل واحد منا، أهلها الطيبون المكافحون الصابرون هم أهلنا الذين لا غنى لنا عنهم، نقلق عليهم اليوم ونحن نراهم يقتربون من دوامة المواجهات الدموية، نكره فكرة أن تتحول ذكرياتنا في مصر العزيزة إلى حكايات من زمن غابر، يا لمصيبتنا لو حدث ذلك لا قدر الله، فلو تحولت أيام مصر الآمنة إلى حكايات من زمن غابر فإن العرب جميعا سيتحولون إلى أمة منسية لا تظهر إلا في المناسبات الفلكورية مثل الهنود الحمر!.