×
محافظة المنطقة الشرقية

حراج سيارات عشوائي داخل حي الشوقية بمكة

صورة الخبر

"في اليوم التالي لم يمت أحد" ولأن الحدث مخالف للمنطق وأعراف الحياة فقد أحدث ارتباكاً هائلاً في النفوس، فلم يحدث على مر تاريخ الكون أن مر يوم بساعاته الأربع والعشرين كلها دون أن تحدث وفاة واحدة، فغياب الموت هو الفوضى بعينها، وهو أسوأ ما يمكن أن يحدث للجنس البشري وللمجتمع. اسم الرواية "انقطاعات الموت" تحكي عن الموت الذي توقف فجأة عن أداء وظيفته، تبهرك الفكرة، فتقرأ بنهم، فمن أكثر الأمور حساسية وصعوبة الحديث عن الموت، التعاطي معه خارج الإطار الديني يسبب مشاكل فكرية وعقائدية للمتديّنين.. والتحدث عنه خارج الإطار العلمي، يؤدي إلى تشنّج العلميين الذين يؤمنون بالجانب المادي العضوي في تفسير ظواهر الكون، لقد شغلت الرغبة في التعرف إلى حقيقة الموت أذهان العلماء والفلاسفة منذ القديم، فكانت لهم تصوراتهم المستمدة من مذاهبهم ومواقفهم الفكرية؛ فكان منهم من تمثل الموت تمثلاً مادياً فلم يرَ فيه أكثر من توقف للجسم عن أداء وظائفه الفسيولوجية لسبب طبيعي، أو لسبب مفاجئ يختم العمر، وكان منهم آخرون تمثلوه تمثلاً روحياً يتم فيه فك الارتباط بين الروح والجسد؛ ليكون ذلك مرحلة ضرورية للخلوص إلى مرحلة جديدة تتجلى فيها الحياة تجلياً آخر أرقى وأشرف. ولكن.. ماذا لو لم يكن هناك موت؟ ماذا لو توقّف الموت؟ وماذا لو رفض أحدهم أن يموت؟ ماذا لو حيينا في عالم لا موت فيه، فلا طفل يموت ولا شاب، ولا رجل ولا امرأة، عالم يتحقق فيه حلم الإنسانية الأعظم منذ بدء الحياة، التمتع بحياة أبدية على الأرض؟ هل سيكون أمراً يستحق كل هذا التفكير الذي قمنا به؟ وهل سنجد السعادة التي تخيلناها مرافقة لهذا الحلم؟ السؤال فرض نفسه مما جعلني أفكر في معنى الموت وأهميته والمغزى من حتمية وجوده، عندما بدأت قراءة رواية "انقطاعات الموت" للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، صاحبني السؤال منذ البداية وجعلني أدرك نوعاً ما أن معنى الحياة يأتي من وجود الموت، وأن الموت ليس مخيفاً ومرعباً، بل إنه أساسي من أجل استمرار الحياة، وهذا ما يجيب عنه ساراماغو في هذا العمل المبهر؛ حيث يأخذ على عاتقه مسؤولية توضيح أهمية الموت وهي مهمة ليست سهلة، فمن منا يحب أن يموت؟ خوسيه ساراماغو يعتمد في رواياته أسلوب طرح السؤال: ماذا سيحدث لو؟ ففي روايته "العمى" اعتمد على سؤال: ماذا يحدث لو أصيب النّاس بالعمى؟ وفي روايته "الطّوف الحجريّ"، يسأل ماذا لو انفصلت شبه الجزيرة الإيبيريّة عن أوروبا، وأبحرت في قلب المحيط الأطلنطي؟ وهنا يتساءل ماذا لو توقّف الموت عن قتل النّاس؟ الأسئلة والبحث هما سحر ساراماغو. استيقظ أهل المدينة يوماً على حقيقة أن الموت توقف عن المرور بهم، فأصبح الجميع فجأة خالدين، فهل سيكون خبراً سعيداً جداً وأمنية طالما تمناها البشر؟ الرواية تلقي الضوء على الآثار السلبية لاختفاء الموت على حياة الإنسان، وكيف لجأ الناس إلى الكنيسة ليصلوا للرب ويتوسلوا إليه بأن يعيد إليهم الموت مرة أخرى حتى تستمر الحياة. فمنذ البداية تغزونا الرواية بجملة أسئلة.. يتوقّف الموت عن القتل في بلدة صغيرة بعد الساعة الثانية عشرة من رأس السنة، ولمدة سبعة أشهر متتالية. في البداية كان إضراب الموت عن عمله كافياً ليبعث حالة من الفرح العارم لدى أهالي البلدة؛ إذ نكّسوا الأعلام على الشرفات، كمبادرة للتعبير عن مدى رضاهم وسرورهم، لكنهم شيئاً فشيئاً يدخلون تدريجياً في القلق، وتبدأ فئات المجتمع على اختلافها في البحث عن حلول لهذه المأساة، لا موت في الأنحاء، والإحساس بالكارثة يتعاظم. ماذا سيحدث للعائلة التي يتراكم فيها كبار السن الذين يعانون من أمراض لا حصر لها نتيجة تعرض أجهزة أجسادهم للعطب الكلي أو الجزئي؟ وكيف سيتصرف الأبناء مع وجود أجداد وأجداد يضاف إليهم المزيد من كبار السن مع تقدم الأيام، وكل منهم يحتاج العناية والرعاية بعدما ردوا إلى أرذل العمر، لنرى الوجه الآخر المبتذل للخلود عندما تصبح الحياة الهرمة والكئيبة متواصلة، ويصبح المرض العضال مستمراً بلا طائل، ويصبح الألم الجسدي عبئاً على صاحبه وعلى من حوله، فلم يبق بين الأحياء من هو قادر على العناية بالعجزة الذين لا يموتون ولم تعد دور رعاية المسنين تتسع لأحد ويغدو الموت أمنية لا تطال. المستشفيات والمراكز الطبية تكتظ بالمرضى الذين يعانون من أمراض خطيرة ومميتة وأسرّتها التي لا تشغر ولا تكفي ممراتها للمرضى الذين لم يعد بعضهم يغادر إلى "ثلاجة الموتى"، فسنة الحياة أن الناس تمرض ثم تشفى وتغادر المستشفى، أو تمرض ثم تموت وبعدها تغادر المستشفى للدفن؛ ليأتي مكانهم آخرون لتلقي الخدمة العلاجية. وكيف ستتصرف الهيئات الحكومية المختصة بالتقاعد والضمان الاجتماعي مع الأعداد الكبيرة من الذين يخرجون من سوق العمل ولكنهم لا يخرجون من الحياة، ومن حقهم أن ينالوا رواتب تعينهم في حياتهم الطويلة المقبلة. وشركات التأمين التي تؤمّن على الحياة مع انعدام الموت، وما هو مصير الآلاف الذين يكسبون لقمة عيشهم من مهن متعلقة بالموت، كحفاري القبور، وشركات تجهيز الموتى الذين أصبح لا عمل لهم؟ ماذا يفعلون بعد أن انقطع الموت عن الناس؟ السلطة الدينية تقع في حيرة؛ إذ يعلن الكاردينال: "من دون الموت لا وجود للانبعاث، ومن دون الانبعاث لا وجود للكنيسة". كذلك دور المسنين ما عادت تتسع للعجزة، فطالبت الحكومة بإنشاء دور كبيرة لها للتخفيف من المعضلة، ناهيك عن الانعكاسات السلبية لعمل عدد كبير من الفئات الشابة في خدمة الكبار، فأضحوا -كما يصفهم ساراماغو- كالحوت العظيم الذي يأكل الصغار، فعمدت مؤسسات تجهيز الموتى ودفنهم، للاستعاضة عن دفن الإنسان بالحيوان لتفادي الإفلاس، أما مؤسسات التأمين على الحياة فصارت على شفير الهاوية، وتذمر الأهالي أنفسهم من مرضاهم الميؤوس من شفائهم، ومن الشيوخ الطاعنين في السن، فعملوا على نقلهم إلى خارج حدود بلادهم المحصنة ضد الموت، كي يلقوا حتفهم حيث لا يزال الموت ممكناً. لوهلة يخترق سمعك صراخ الكائنات "لا أريد هواء، أريد أن أموت!"... ثم يلفتك تضرّع الجميع من أجل عودة الموت، ولكن يصدمك أنه حتى في الموت يستعمل الناس نفس الأسلحة الحقيرة التي أفسدت الإنسانية، الفساد والرشوة والتّخويف وشبكات المافيا. الرواية رغم أنها مرهقة وتحتاج إلى كثير من الصبر عند قراءتها، لكنها مثل فنجان قهوة، فالقهوة توقظ مشاعرك وأفكارك وتجعلك أكثر تركيزاً، أفكار وتحليلات ومنطق وفلسفة لوضع متخيل أساساً، الحوار غير تقليدي ولا يفصل بين المتحاورين سوى فواصل ما يجعل عملية تتبع القائل مسألة مرهقة، تبدأ الرواية بجملة "في اليوم التالي لم يمت أحد"، وتنتهي بنفس الجملة، وبعد أن يستمتع الموت بمذاق الموسيقى يقرر أن يُبقي على عازف الفيولونسيل على قيد الحياة، إن غياب الموت هو الفوضى بعينها وهو أسوأ ما يمكن أن يحدث للجنس البشري وللمجتمع. كلنا يعلم أنّ الموت والحياة شقيقان، لكنّنا لم نستشعر المأساة والكارثة في غياب الموت مرّة واحدة وإلى الأبد، الخلود لا يعني ألا تموت أو أن تبقى على قيد الحياة في انتظار الموت، الخلود أن تحيا لحظة تبقى للأبد. إن ساراماغو لا يذكرنا بالموت ليدفعنا للخوف والقلق، ولكنه يسعى إلى تكريسه كفكرة بديهية لدينا، ولازمة لا بد منها لكي تستمر الحياة! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.