حتى اليوم، لا يزال بإمكاننا تخيل، على الأقل في عالمنا العربي، عملية الدخول إلى المصارف والمؤسسات العامة لقبض ودفع الأموال، إذ لا تزال التكنولوجيا بعيدة قليلاً من متناول المؤسسات المالية لأسباب كثيرة. لكن التطور التكنولوجي الذي لا بد أن يصيب هذا القطاع في شكل خاص، لن يترك لنا فرصة في الأعوام العشر المقبلة لتخيل لحظة كهذه، إذ من المؤكد أن كل المعاملات وعمليات الإيداع والقبض، وحتى القروض، ستصبح مؤتمتة بفضل آليات وتقنيات يطلق عليها مصطلح «فينتيك». يعتبر المصطلح مزيجاً بين العمليات المالية والتكنولوجيا، إذ يُطلق على الشركات التي تستعين بالتكنولوجيا لتقديم خدمات مالية للمستهلكين. وعلى رغم أن هذا المصطلح حديث نسبياً، إلا أن تاريخ استعماله كتقنية يعود إلى سنوات. ويشير بحث نشرته جامعة هونغ كونغ عام 2015 تحت عنوان «تطور فينتيك: نموذج جديد في مرحلة ما بعد الأزمة»، إلى أن الفكرة الأولى لاستعمال التكنولوجيا في العمليات المالية بدأت عام 1865 عندما ابتكر جيوفاني كاسيلي «البانتلغراف»، وهو أداة تستعمل لتأكيد التواقيع في العمليات المصرفية، لتأتي بعدها ابتكارات متعددة، منها الصرافات الآلية في 1967، والنظام المركزي العالمي للتنفيذ الإلكتروني للحوالات المالية المتبادلة بين المصارف العالمية أو الـ «سويفت كود» عام 1973، وصولاً إلى خدمة «الابتسام للدفع» التي أطلقتها شركة «علي بابا» الصينية عام 2015، وغيرها من الابتكارات. ومن المؤكد أن ابتكار الإنترنت ساعد في شكل كبير في تطور هذه التقنية ودخولها حياتنا اليومية، إذ أصبح بإمكان المستخدم اليوم إتمام كل العمليات المالية من خلال هاتفه النقال باستعمال تطبيقات خاصة أو تابعة للمصرف. كل هذه العمليات تدخل في سياق «فينتيك». أما اليوم، فإن هذا المصطلح أصبح جزءاً لا يتجزأ من العمليات المالية في العالم، إذ دخلت شركات كبيرة على خط التكنولوجيا المالية على غرار «إي باي» التي استحوذت على «باي بال» البالغة قيمتها 50 بليون دولار. وشهد القطاع خلال السنوات القليلة الماضية ثورة حقيقية في هذا المجال، إذ ارتفعت الاستثمارات المالية في «فينتيك» من 3 بلايين دولار عام 2013، لتسجل نحو 12 بليون في 2014 و19 بليون دولار عام 2015. وحتى منتصف آب (أغسطس) 2016، سجلت الاستثمارات العالمية في هذا القطاع 15 بليون دولار، مع ارتفاع ملحوظ في الاستثمار في الشركات الآسيوية، خصوصاً الصينية التي فرضت نفسها بقوة في القطاع المالي. والحال، أن تطور هذا القطاع سيوقع المصارف العالمية في أزمة فعلية ما لم تتمكن من تدارك نفسها وركوب موجة التكنولوجيا، ففي حال نظرنا إلى الخدمات التي تقوم المصارف بتأمينها للمستخدم، وهي تتمركز حول العمليات المالية في شكل أساسي من قبض ودفع وإقراض، إضافة إلى خدمات التأمين وتأمين العملات وإدارة الأصول، فسنجد أن شركات «فينتيك» استطاعت تحقيق اختراقات حقيقية في الأسواق وبدأت بسحب البساط من تحت المصارف العالمية. على صعيد العملات، لم تتمكن المصارف حتى اليوم من كبح تطور «البيتكوين» التي تُعتبر العملة الافتراضية للإنترنت، والحل الأمثل لتفادي العمولات التي يفرضها المصرف على التحويلات المالية، كما هي الحل الأمثل لتهريب الأموال في حال وجود قيود على إخراج الرساميل. كما أن كثيراً من شركات التكنولوجيا تمكنت من الوصول إلى قائمة «يونيكورن»، وهي الشركة التي تُقدر قيمتها السوقية بأكثر من بليون دولار، من خلال تقديم عمليات إقراض من الأفراد إلى الأفراد من دون أن يكون المصرف وسيطاً. وعام 2015، توقع مصرف «غولدمان ساكس» انخفاض أرباح المصارف الأميركية بنحو 7 في المئة وهو ما يعادل 11 بليون دولار عندما نصبح في عصر التمويل الجماعي أو ما يدعى تمويل الند للند. وغالباً ما تُركز الشركات التكنولوجية عموماً على قطاع الدفع الإلكتروني على غرار الخدمات التي تقدمها «باي بال» وغيرها، لكن في السنوات الماضية، بدأ بعض الشركات المغايرة لهذه النظرة بالظهور بقوة في هذا المضمار. على سبيل المثال لا الحصر، لجأت الشركات المالية التي تعمل في مجال البورصة والأسهم على غرار شركة «بيترمينت» الأميركية إلى الاستثمار في حواسيب وخوارزميات متطورة لتوصية المستثمرين بشراء أسهم معينة أو بيعها. ويقدر أن تعمل هذه الحواسيب على إدارة ما يوازي 8 تريليونات دولار من الأصول بحلول العام 2020. وتأكيداً على ما سبق، قال الرئيس التنفيذي السابق لمؤسسة «باركليز» المالية أنطوني جينكينس، إن هناك سلسلة من الاضطرابات، على غرار المشكلات التي سببتها «أوبر» في قطاع النقل، ستؤدي إلى انخفاض أرباح المصارف في بعض المناطق إلى 60 في المئة، مضيفاً أن شركات «فينتيك» الملمة بالتكنولوجيا بطبيعة الحال، تستطيع القيام ببعض أعمال المصارف بطريقة أسرع وأكثر فعالية وأقل كلفة من البنوك الكبيرة. ووجد استبيان أصدر في العام ذاته قامت به شركة «تيمينوس»، أن 27 في المئة من كبار المصرفيين اعتبروا الـ «فينتيك» أكبر المخاطر التي تهدد أعمالهم. ولعل أبرز الأسباب التي أدت إلى هذه المشكلات في قطاع المصارف والتكنولوجيا يكمن في الأزمة المالية التي ضربت العالم عام 2008، إذ أفقدت هذه الأزمة المستخدم العادي الثقة في المصارف في شكل أساسي ما ساعد الشركات الناشئة على اكتساب هذه الثقة المفقودة، بالإضافة إلى القيود المصرفية الكبيرة التي فرضت بعد هذه الأزمة على المصارف، ما أضعف قدرتها على المناورة بهدف استعادة ثقة الزبائن وتقديم خدمات أفضل. ومن الأسباب البارزة أيضاً، انخفاض كلفة إنشاء الشركات الناشئة وسرعة تطورها، بالتزامن مع انخفاض كفلة التكنولوجيا بشكل أساسي. لكن المصارف لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التحدي، إذ تحاول الاستثمار في شكل دائم في البنية التحتية الخاصة بها، وتتوجه في شكل كبير نحو الأتمتة لتخفيف الكلف. كما أنها تحاول الدخول في شراكات مع الشركات الناشئة من خلال تحسين قدراتها التنافسية ومستوى خدماتها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تعاون مصرف «رويال بانك أوف سكوتلاند» مع شركات تعمل في مجال الإقراض عبر الإنترنت للشركات الصغيرة على غرار «إيووكا». وقام مصرف «غولدمان ساكس» بالاستثمار في أكثر من 9 شركات ناشئة تعمل في المجال المالي، في حين استثمر مصرف «سيتس بنك» الأميركي في سبع شركات، و «بنكو سانتاندير» الإسباني في سبع شركات أيضاً، ومصرف «أتش أس بي سي» في شركة واحدة خلال الربع الأول من 2015 حتى الربع الأول من 2016.