تابعت باهتمام شديد كما فعل الكثيرون، ما نشرته الصحف عن اللقاءات والمؤتمرات، التي دعا لها الأزهر، وشارك فيها أطراف ووفود، وطرحت فيها قضايا المواطنة، ومواجهة التطرف والإرهاب، واحترام التعددية الدينية والمذهبية والفكرية، وترسيخ القيم الإنسانية المشتركة، وقد اختتم المؤتمر الذي عقد منذ أسبوع بإعلان أكد فيه الحاضرون إدانتهم للإرهاب، ووقوفهم إلى جانب الحرية والمواطنة والتعدد والتكامل. هذا الموقف الذي عبر عنه الأزهر ودافع فيه عن المواطنة وحقوق الإنسان ليس جديداً تماماً، وإنما هو استمرار لمبادرات سابقة، وقف فيها الدكتور أحمد الطيب، ومعه بعض علماء الأزهر هذا الموقف المستنير من قضية الحريات. وكما رأينا في مشاركة الدكتور الطيب مع عدد من العلماء المسلمين في المؤتمر، الذي عقد في نوفمبر الماضي في الإمارات مع رجال الكنيسة الإنجليكانية تحت عنوان«نحو عالم متفاهم متكامل»، وتحدث فيه شيخ الأزهر ورئيس أساقفة كانتربري، وصدر عنه بيان أكد فيه الحاضرون احترامهم لحرية الاعتقاد والتعددية الدينية والعيش المشترك. الأزهر عاد ليؤكد التزامه بهذا الموقف، كما فعل في اللقاءات والمؤتمرات الأخيرة، وهذا أمر يدعو للتفاؤل، ويشجع على انتظار عهد جديد، يؤدي فيه الأزهر رسالته في التنوير والإحياء. والإحياء له معنيان: معنى سلبي، يتمثل في محاولة إعادة الروح للنصوص، التي عبرت عن حاجة أو مرحلة مضت وفقدت قيمتها بعدها، فهي الآن نصوص ميتة، والمعنى الإيجابي، يتمثل في قراءة الماضي بعيون الحاضر، وإعادة صياغته بهذه الروح، التي تبعث فيه الحياة، وتتيح له أن يولد من جديد، ومن هنا حاجتنا الملحة لتجديد الخطاب الديني، وفتح باب الاجتهاد. المبادئ تراث الماضي المحفوظ، والمقاصد تراث المستقبل المأمول الذي لا يتحقق إلا بالانفتاح على الواقع، واحترام قوانين التطور، والاستعداد لمراجعة النفس وتصحيح الأخطاء، والحوار مع الآخرين. الإرهاب قبل كل شيء ثقافة هدامة معادية لكل ما يقوم عليه وجودنا، معادية للوحدة الوطنية، وللدولة المدنية، وللنظم الديمقراطية، ولثقافتنا الحديثة، ومعادية للعقل والعلم، ومعادية للمسيحية والإسلام، الذي تزعم هذه الثقافة الهدامة أنها تمثله، وتتحدث باسمه. ومن هنا يكون على الأزهر قبل غيره أن يتصدى لهذه الثقافة الكاذبة الهدامة، التي لا تتبناها عصابات سيناء وحدها، وإنما تتبناها جماعات الإسلام السياسي كلها، وإن اختلفت أساليبها، وتعددت لأنها تملك الكثير و تستخدم أجهزة الإعلام، ودور العبادة، وأموال الداخل وأموال الخارج. إذا كانت تغتال من يعارضونها في مرحلة من المراحل، فهي تشكل الأحزاب وتدخل الانتخابات في مرحلة أخرى، وتحصل على أصوات الناخبين، وتصل إلى السلطة وعندئذ تقلب للناخبين وللديمقراطية وللدستور وللبرلمان ظهر المجن، وتشهر أسلحتها الأخرى التي استنفرت المصريين فثاروا ثورتهم، التي أسقطت سلطة الإرهابيين. لكنها لم تسقط ثقافتهم الهدامة، التي أفرزت قوانين وخلقت مناخاً يعادى المواطنة، ويعادى حرية التفكير والتعبير، ويسمح بالخروج على أحكام الدستور وعلى قوانين الدولة كما نرى في ما يسمونه المجالس العرفية، التي ترحل المسيحيين من القرى، التي يسعى المتطرفون لترحيلهم منها، ولهذا يختلقون المشكلات التي تؤدى للصدام. عندئذ تأتي المجالس العرفية لتسير في الطريق الذي رسمه المتطرفون، وتحكم بترحيل المسيحيين عملاً بثقافة الإرهاب المبنية على التمييز والفصل، واعتبار المسيحيين ذميين يكفيهم أن يعيشوا في حماية المسلمين، كما يعيش الأرقاء في حماية سادتهم، أما أن يكونوا مواطنين أحراراً مساوين للمسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات، فهذا ما تأباه ثقافة الإرهاب، وتحاربه بالسلاح مرة، وبالمجالس العرفية مرة أخرى. ونحن نرى إذاً أن هذه الثقافة الهدامة لا تزال شائعة مؤثرة تجد من يتبناها، ويعمل بها حتى في بعض المؤسسات الشرعية، وذلك لأن الإرهابيين استطاعوا أن يخلطوا بين الدين والدولة، وأن يقدموا أنفسهم للمتدينين البسطاء باعتبارهم مجاهدين، يسعون لتطبيق الشريعة، واستعادة الخلافة، وأن من حقهم أن يخرجوا على القانون، وأن يهدموا الدولة، ويكفروا المعارضين، الذين استطاعوا أن يسقطوا سلطة الجماعة الإرهابية. لكنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يسقطوا ثقافتها التي لا تسقط بالمظاهرات ولا تسقط بأجهزة الأمن، وإنما تسقط بفكر مستنير، نستمده من ثقافتنا، ومن الثقافات الأجنبية، من الدين والتاريخ والفكر الفلسفي والفكر السياسي، وقد عبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر عن هذا الفكر المستنير في اللقاءات والندوات والمؤتمرات، التي أشرت إليها في السطور الماضية.