«عندما يتعلق الأمر بالعلوم، لا توجد كتب منزهة عن الأخطاء»، خلاصة يمكن الخروج بها إثر قراءة كتاب «أخطاء لامعة» للكاتب ماريو ليفيو (دار سيمون وتشاستر). يستعرض الكتاب خمسة أخطاء ارتكبها علماء بارزون من داورين إلى اينشتاين، ليقدم مفهوماً جديداً للعبقرية والنبوغ العلمي. من كان ليظن أن داورين صاحب النظرية البيولوجية الأشهر، أو اينشتاين الذي تحول اسمه لقباً يطلق على العباقرة، ارتكبا أخطاء علمية كبرى؟ لا يحاول الكتاب تشويه صورة أشهر العلماء، بل يكرس حقيقة مفادها بأن «العباقرة قد يخطئون»، وبأنّ «هامش الخطأ في العلوم البيولوجية والفيزيائية والكيميائية موجود إلى حد كبير، وضروري كونه يعطي العلماء حافزاً للتصحيح ولتحقيق التقدم العلمي». يقدم ليفيو صورة مبسطة عن مسار الإنجازات العلمية وكيفية الوصول إليها. فالعلم قائم على «نظريات» تحتمل الصواب والخطأ، و»حقائق» لا يمكن الشك بها أو دحضها. مع الإشارة إلى أن ارتكاب الأخطاء ليس مقصوراً على العلماء المستجدين أو عديمي الخبرة، لأنّ أكبر العلماء وأشهرهم وقعوا في أخطاء خطيرة كادت تدمر مسيرتهم بسبب كثرة الانتقادات، لكنهم لم يكترثوا لها بل واصلوا سعيهم لإثبات نظريات معقدة وتأكيد حقائق جديدة. يصف الكاتب كيفية ولادة النظريات العلمية بالقول: «نحن لا نستطيع أن نعيش في حالة من الشك الدائم، لذلك نبتكر أفضل نظرية ممكنة ونصدقها تماماً كما لو أنها حقيقة ثابتة... ثمة نظريات كثيرة بدأت بتخمين عشوائي لكنها تحولت إلى اعتقاد راسخ بعد إثبات صحتها. ببساطة، يمكن القول إن البشر بحاجة إلى الإيمان ببعض المعتقدات من أجل الاستمرار في العيش، وكبار العلماء ليسوا استثناء. هم يخرجون بنظريات صحيحة وخاطئة على حد سواء، ويؤمنون بها بقناعة متساوية. ومن المهم الإشارة إلى أن النظريات الخاطئة ليست عائقاً أمام تقدم العلم، بل إنها جزء أساسي من الكفاح لتطوير العلوم. تحتاج الأفكار الخلاقة بالفعل إلى الاستعداد لتقبل الدخول في الأخطار، وتقبل حقيقة أن الأخطاء والهفوات قد تكون بوابة لتحقيق التقدم». يركز ليفيو على أخطاء خمسة علماء هم تشارلز داروين، وليم طومسون (اللورد كلفن)، لينوس بولينغ، فريد هويل، وألبرت أينشتاين. كل منهم قدم مساهمات كبيرة في مجال العلوم ومحاولات فهم الطبيعة، وآمن إيماناً راسخاً بنظرية اتضح لاحقاً أنها خاطئة، لكنّ هذه الأخطاء لم تنتقص من إنجازاتهم العظيمة الأخرى. الخطأ الذي ارتكبه داروين يتعلق بعلم الوراثة، ففي كتابه «أصل الأنواع» اعتبر تشارلز داروين أنّ الوراثة قائمة على امتزاج صفات الأم والأب معاً وتناقلها من جيل إلى آخر لتعود وتختفي تماماً مع الوقت. اللافت أن داروين نفسه لم يكن مقتنعاً بما كتبه، بل تبنى هذه النظرية لكونها كانت شائعة في حينه لا سيما بين علماء النبات. وقد كتب يعبر عن جهله بعلم الوراثة صراحة: «إن غالبية قوانين الوراثة مجهولة لدينا اليوم. لا أحد يعرف لماذا تنتقل صفة معينة بين أفراد من النوع ذاته بعض المرات بالوراثة وأحياناً لا تنتقل بتاتاً، وفي حالات خاصة تعود وتظهر صفة وراثية معينة، كلون الشعر الأحمر أو التمتع بموهبة موسيقية فذة، لدى طفل ما كان يحملها أحد أجداده القدامى». بعد سبع سنوات من صدور كتاب داروين وتساؤلاته الوراثية هذه التي لم يجد لها جواباً مقنعاً، تمكن راهب نمسوي يدعى غريغور مندل من حلّ مشكلة داروين عبر ابتكاره نظرية الوراثة الحديثة. أكد مندل أن الصفات الوراثية تنتقل عبر وحدات صغيرة (سميت بالجينات لاحقاً)، وهي لا تمتزج معاً كما قال داروين، بل يتم حملها وتناقلها من جيل إلى آخر من دون أن تتغير، فتظهر بوضوح عندما تكون صفات سائدة، أو تخفت عندما تكون صفات متنحية. واكتشف عالم الفيزياء الشهير وليام طومسون، المعروف باللورد كلفن، القوانين الأساسية للطاقة والحرارة، لكنه عاد واستخدم هذه القوانين لاحتساب وتقدير عمر الأرض فأخطأ بالتقدير بنحو 100 مليون سنة، وهو ما يقل خمسين مرة عن العمر المستنتج من القياسات الإشعاعية الحديثة. ومع أن تقدير كلفن كان معيباً بشكل قاطع، فإن جهده يظل محورياً ورائداً في هذا المجال كونه أول من طبق قوانين الفيزياء على قضية ظلت لفترة طويلة خاضعة للتخمين. أما عالم الكيمياء لينوس بولينغ، الحائز جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1954، فاكتشف التركيبة الكيميائية للبروتين، العنصر النشط في كل الأنسجة الحية، لكنه في المقابل قدم تركيبة خاطئة تماماً للحمض النووي الذي يحمل المكونات الوراثية من الآباء إلى الأبناء. العالم الرابع الذي يتناوله الكتاب هو فريد هويل، أحد أعظم علماء الفيزياء الفلكية في القرن العشرين، مكتشف عملية «تفاعلات الانصهار النجمي»، أي كيفية نشوء بعض المواد الثقيلة مثل الكربون والنيتروجين والأوكسجين والحديد، بواسطة التفاعلات النووية التي تحدث بين النجوم. ورغم نجاحه البارز، عاد هويل واقترح نظرية ثانية لتفسير تطور الكون، وهي النظرية المعروفة باسم نظرية «الحالة الثابتة»، والتي تقول إن الكون لم يتطور بعد حصول الانفجار العظيم، بل كان ثابتاً وسيبقى كذلك إلى الأبد. أصر هويل بعناد على صحة نظريته حتى بعد اثبات حصول الانفجار العظيم، وظل يسخر من كل من يعارضه. أخيراً، يتوقف الكاتب مع ألبرت أينشتاين الذي اكتشف نظرية النسبية العامة، ومن ثم أضاف إلى هذه النظرية عنصراً إضافياً عرف باسم الطاقة المظلمة، وهو نوع من الطاقة غير معهود بالنسبة الى العلماء، لكنه مسؤول عن سرعة تمدد الكون. أينشتاين تراجع وسحب اقتراحه بوجود الطاقة المظلمة، معتبراً أن لا لزوم لها. لاحقاً، أثبتت الدراسات أن الطاقة المظلمة موجودة فعلاً، وبالتالي فإن تراجع أينشتاين كان خطأه الأكبر. يُظهر كل من هذه الأمثلة كيف أن النظريات والأفكار الخاطئة يمكن أن تكون مفيدة في البحث عن الحقيقة العلمية. فهي بطبيعة الحال لا مفر منها لأنها جزء لا يتجزأ من عملية البحث العلمي التي تنطوي على التجربة والخطأ. اينشتاين لم يكن عبقرياً