د. هشام بشير تتسارع وتيرة الأحداث في الأراضي السورية المنكوبة مع انطلاق الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف يوم الخميس الماضي بعد تعليقها لمدة عشرة أشهر بين وفدي الحكومة السورية والمعارضة ومندوبين عن منصتي القاهرة وموسكو- رغم رفض وفد المعارضة بشكل قاطع ضم المنصتين في البداية إلا أنها قبلت بذلك فيما بعد، وسمحت بإدخال ممثلين اثنين من كلّ منهما- والمبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي مستورا، وحضور روسي قوي مع تراجع واضح للدور الأمريكي. مع بدء المفاوضات المتعثرة منذ بدايتها- والمستمرة إلى الرابع من مارس/ آذار الجاري كما أعلن مسبقًا- وجد وفد النظام السوري الفرصة سانحة على طبق من ذهب لتأكيد مطلبه الأساسي بمحاربة الإرهاب أولًا. ففي صباح السبت 25 فبراير/ شباط من العام الجاري استهدفت التنظيمات المتشددة مقرين أمنيين في تفجيرات انتحارية في وسط حمص، أحدهما فرع أمن الدولة والآخر فرع الأمن العسكري، ما أسفر عن مقتل العشرات بينهم ضابط أمني كبير وجرح المئات، مع إعلان «جبهة فتح الشام» (جبهة النصرة سابقاً) مسؤوليتها عن الهجوم. جاءت تفجيرات حمص الأخيرة بمثابة دعم إضافي ومجاني لوفد النظام السوري- القوي عسكريًا على أرض الواقع- ما أكسبه المزيد من حرية الحركة والمناورة في المفاوضات، لذا لم يكن غريبًا أن يتمسك الوفد الحكومي برئاسة بشار الجعفري أولًا بالبحث عن كيفية إيجاد آلية لمحاربة الإرهاب خاصة المتمثل في جبهة النصرة وتنظيم «داعش»، بينما ظل وفد المعارضة متمسكًا بمطلب الانتقال السياسي من دون الأسد، وهو الأمر الذي رفضه وفد النظام.الآمال والتوقعات قبيل البدء في مفاوضات «جنيف 4» كانت بالفعل متواضعة ومحدودة، حيث توقعت صحيفة «إيزفيستيا» الروسية الصادرة في الثالث من فبراير/ شباط 2017 فشل مفاوضات جنيف بسبب ما أسمته رفض منصة الرياض- التي لم تشارك بالفعل- في التواصل مع مجموعات المعارضة الأخرى، لتشكيل وفد موحد للمعارضة السورية للمشاركة في مفاوضات «جنيف 4»، وفي ذات السياق نجد أن الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس والمبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا قالا- قبيل المفاوضات مباشرة- إنهما لا يأملان في حدوث انفراجة مؤثرة في المفاوضات، لكن تحدوهما الآمال أن تكون «جنيف 4» بداية مهمة للتوصل إلى اتفاق بين الأطراف السورية.يضاف إلى السابق أن دي ميستورا أصدر في بداية المفاوضات بياناً إجرائياً- يدل على ضعف التوقعات- حول سير مفاوضات «جنيف 4» بين الطرفين، قائلًا: «إن خطة العمل تأتي في سياق إعداد أرضية مناسبة لإجراء مناقشات جادة والتفاوض حول جدول الأعمال الوارد في قرار مجلس الأمن 2254»، مؤكدًا أن المفاوضات ستتركز بشكل أساسي على قضايا وقف إطلاق النار وإجراءات بناء الثقة ومكافحة الإرهاب، مضيفاً «أن بالإمكان إضافة محاور أخرى مثل إعادة الإعمار والدعم الدولي لحزمة الانتقال السياسي، التي يتم التوصل إليها عبر التفاوض».وفي قراءة متأنية لما طرحه دي ميستورا وتطورات الأحداث المتلاحقة، خاصة بعد تفجير حمص الأخير، ونجاح نظام الأسد في استرداد مدينة «حلب» الاستراتيجية في أواخر العام المنصرم، وميوعة الموقف الأمريكي تجاه تطورات الأحداث في سوريا، واستمرار الدعم اللامحدود من روسيا وإيران للنظام السوري والتوافق الروسي- التركي رغم التباعد الظاهري في الموقف بين البلدين؛ فمن المؤكد أن مفاوضات «جنيف 4» لن تسفر عن شيء جديد سوى ما تمليه الإرادة الروسية- الإيرانية، خاصة بعدما لوحظ أن الولايات المتحدة تشارك في المفاوضات على مقعد المتفرجين وليس اللاعبين الأساسيين.بمعنى آخر فإن جميع الدلائل والقرائن تشير إلى أن مفاوضات «جنيف 4» تأتي استكمالًا لمسلسل فشل المفاوضات السابقة في إيجاد حلحلة حقيقية للأزمة السورية، فمطالب المعارضة ما زالت تراوح مكانها رغم التراجع الكبير في نتائجهم العسكرية على أرض الواقع وانحسار الدعم الدولي، خاصة بعد تولي ترامب زمام الحكم في البيت الأبيض، بينما نجد أن النظام السوري- الذي أصبح أكثر تماسكًا بفعل الدعم الروسي والإيراني- ظل مصراً على مطالبه.بدا واضحاً أن المعارضة السورية المنقسمة حاليًا تمتلك من الطموحات والأحلام ما هو أكبر من قدراتها وإمكاناتها على أرض الواقع، وهي تعيش في أضغاث أحلام، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن الجيش السوري الحر أعلن أن تحرير مدينة «الباب» من «داعش» سوف يقوي من موقف المعارضة السورية في مفاوضات «جنيف 4»، وهذا أمر يكتنفه كثير من اللغط، وهو «حق يراد به باطل»، حيث إن تحرير مدينة الباب جاء بدعم عسكري تركي من أجل تعزيز تواجد أحفاد أتاتورك في شمال سوريا، بغية وأد الحلم الكردي في تأسيس دولة قد تهدد الأمن القومي التركي مستقبلًا، يضاف إلى السابق أن تصريحات سالم المسلط، المتحدث الرسمي باسم وفد الهيئة العليا للمعارضة- بعد بدء المفاوضات- التي أكد فيها أن وفد النظام السوري برئاسة بشار الجعفري لم يأت إلى جنيف لبحث أي حل سياسي، تعكس حالة إحباط وفد المعارضة من النقاشات الراهنة في «جنيف 4»، كما تعكس تصريحات المسلط تباعد وجهتي النظر بين وفد المعارضة ومنصتي القاهرة وموسكو اللتين من المفترض أن تمثلا أيضا وفد المعارضة! ولذا لم يكن غريباً أن يقول المتحدث الرسمي باسم وفد الهيئة العليا للمعارضة «من لا يقبل بالثوابت السورية مع احترامه لمنصتي موسكو والقاهرة فمن الأفضل أن يجلس إلى طاولة مندوب النظام السوري بشار الجعفري».ومن المؤكد أن استمرار تطورات وتداعيات الأحداث الحاصلة في سوريا منذ بدء الثورة على نظام بشار الأسد وما تبعها من تدخلات أجنبية يصب أولًا في مصلحة العدو «الإسرائيلي» الذي أعلن رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو مؤخرًا أن الجولان المحتلة لن تتم إعادتها إلى سوريا مستفيداً بحالة الضعف للدولة السورية وكذلك الدعم الأمريكي المعلن منذ تولي ترامب سدة الحكم في بلاد العم سام، هذا من جانب.ومن جانب آخر أصبحت سوريا مرتعًا خصبًا لكل من تسول له نفسه العدوان المباشر عليها، فبخلاف استمرار العدوان «الإسرائيلي» المعلن وغير المعلن على الأراضي السورية لم يكن من المستغرب أن «العراق» الذي يعاني من انتشار الإرهاب وغياب الأمن والاستقرار عن جل أراضيه أصبح أحد الأطراف الفاعلة في مكافحة الإرهاب في سوريا، بعدما أفادت مصادر وزارة الخارجية العراقية في 24 فبراير/ شباط من العام الجاري، بأن مقاتلات حربية عراقية شنت غارات داخل سوريا استهدفت مواقع لتنظيم «داعش» وأن هذه الغارات تمت بالتنسيق الكامل مع الحكومة السورية.وفي ظل الفشل المتوقع لمفاوضات «جنيف 4» يأمل أبناء الشعب السوري المكلومين أن تكون القمة العربية المقرر عقدها في الأردن أواخر شهر مارس/ آذار الجاري تحمل بارقة أمل أو مبادرة جديدة لحلحلة الوضع المعقد والمتأزم داخل الأراضي السورية التي يعاني جل شعبها وطأة الحرب والفقر وافتقار نعمة الأمن وغياب الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الخدمات الأساسية، فهل تحدث المعجزة من جامعة الدول العربية؟ *مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والاقتصادية (جامعة بني سويف)