القاهرة الشرق في بضع إشارات تقترب رواية (مدد) مما جرى في مصر بعد 25 يناير كانون الثاني 2011 متفادية التصريح والخوض في صخب السياسة عبر رصد عالم بعض المهمشين الذين استضافوا وزيراً سابقاً قضت الاحتجاجات على مستقبله السياسي فلا يجد مفراً من التطهر الإجباري من ماضيه سالكاً ما يشبه الصعود الروحي. واختار الكاتب المصري محمود الورواري لعنوان الرواية كلمة (مدد) ذات المدلول الصوفي حيث يهتف بها المريدون طلباً للفيض الإلهي ويتعالون على متاع الحياة وتصير أرواحهم قريبة من الملكوت. ولا يقترب الورواري في (مدد) من السياسة لأنها منطقة ملغومة تصيب شظاياها العمل الأدبي بنوع من الافتعال والمباشرة التي كانت سمة لأعمال أدبية صدرت في مصر في الآونة الأخيرة احتفاء بدور الحشود المليونية في إجبار الرئيس الأسبق حسني مبارك على التنحي في فبراير شباط 2011. ولكن الورواري في روايته يعنى بما تركته الانتفاضة الشعبية من آثار على نماذج بشرية متناقضة تضم قاتلاً هارباً من الثأر وأصدقاءه ساكني المقابر من أصحاب المهن المتواضعة الذين أصبحوا جيراناً لرياض كامل في إقامته بينهم منذ ذهب إلى قبر أبيه فنقلته حياتهم البسيطة وسلوكهم العفوي من «عبادة السياسة» إلى إعادة اكتشاف ذاته بعد أن كان يتخيل أنه أحد سادة الشعب. ولم تكن رحلة «رياض كامل» إلى ذاته سهلة إذ تبدأ الرواية بضميره الذي حاول أن يقتله طوال سنواته في السلطة ولكن ضميره يصحو ويواجهه وقد أصبح وحيداً وعارياً من السلطة ويتمنى الموت ويعترف لضميره «أنا أجبن من أن أنتحر» ثم تبدأ مجاهدات «معركة القرب» الصوفي التي لم يكن في البداية مؤهلاً لها لأنه ما زال يتعامل «مع الله وكأنه رئيس دولة» يطلب قربه ويخشى الرفض ولكنه يجاهد ليروي روحه الظمأى. تبدأ الرواية -التي تقع في 358 صفحة متوسطة القطع وأصدرتها (الدار المصرية اللبنانية) في القاهرة بغلاف صممه الفنان عمرو الكفراوي- بمواجهة الضمير لصاحبه في مونولوج طويل يعري ماضي رياض كامل منذ كان طفلاً مهاناً مروراً بمراحل صعوده لأنه «خبير في الانحناء» إلى أن صار وزيراً بعد مسلسل من التآمر والتنازلات. وفي الصفحات الأولى تسجيل لشعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي أطلقه المحتجون. وبعد أكثر من 250 صفحة من الرواية إشارة ثانية للاحتجاجات في ميدان التحرير على لسان سائق سيارة أجرة يقول إن «كل مداخل التحرير مقفولة» والجماهير تواصل الهتاف للحرية فتخطف «شيئا من وهج الروح». ووسط ساكني المقابر وجد رياض كامل في نفسه شيئاً من الشجاعة على الانتحار «أنا هنا لأموت ببطء» بتجاهل إصابته بمرض بالضغط والسكري ولكن ذلك لا يتحقق له بفضل جيرانه الجدد ومنهم «درديري» الهارب من حكم عرفي بالموت منذ 30 عاماً حين قتل شاباً بقسوة ثم اختبأ في المقابر «هارباً من الموت لأختبئ في حضن الموت الموت لا يراك لوكنت قريباً منه.» ولم تكن المقابر إلا حياة بديلة لساكنيها حيث يرصد الراوي-الذي عابه أحياناً أنه عليم بكل شيء عن الجميع وبمستوى وعي يفتقد إلى التباين في بعض الأحيان- مفارقات عن نساء ورجال ورغبات وصراع ومصالح. عن لقاء الحياة والموت حيث رأى رياض كامل في يومه الأول مشهداً يجمع الزغاريد والعويل إذ تداخلت «زفة» خروج الشاب حسن من السجن مع موكب تشييع جنازة. وفي الليل تتحول «قهوة متصبرنيش» إلى حانة أما الحوش الخاص بالشيخ زوزو -الذي كان طالباً في جامعة الأزهر واسمه زاهر وأجبره الفقر على ترك الدراسة فيكون بالنهار كتاباً لتحفيظ القرآن وفي الليل للجلسات الخاصة. وتقول الرواية «كل شيء في هذا المكان له استخدامان. حتى الناس هنا لهم اسمان. اسم حقيقي واسم لبسوه عندما دخلوا إلى هنا وللناس أيضاً حياتان.. حياة في المتن وحياة على الهامش. هم موتى وأحياء في الآن ذاته». وفي نوبة اليأس يهمل رياض كامل تناول الأدوية ويكاد يموت وتنقذه البائعة «حياة» التي ترى فيه بديلاً لأبيها وبعد العودة من المستشفى ينصحه الشيخ بالخروج إلى الخلاء والزهد في الدنيا مفسراً ذلك بأن «الارتقاء عبر مراتب الوجود يأتي عبر ترك المادي. كلما ارتقيت درجة زاد التجلي في باطنك حتى تصل إلى الفناء إذا وصلت إلى حالة الفناء تلك تكون قد استيقظت من الحياة التي يعيشها الإنسان العادي والناس نيام فإن ماتوا استيقظوا.» وتنتهي الرواية بموت الشاب حسن في احتجاجات 30 يونيو حزيران2013 ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين وقبل أن يلفظ حسن ألفاظه يوصي رياض كامل برعاية زوجته «إيمان» وأخته «حياة» ويكون أمام الوزيرالسابق الاختيار بين مقام الصوفي والانحياز «إلى الطيني مرة أخرى»فيفضل العودة وفي يمينه «حياة» وفي يده اليسرى «إيمان».