×
محافظة المنطقة الشرقية

إصابة واحتجاز عامل إثر انهيار جدار فناء منزل.. و"مدني حفر الباطن" يتدخل

صورة الخبر

قال الحاج حمدي: «أسرعوا يا جماعة ستأتي السيارة في أي وقت». أسرعت بيان تضع قطعة أخرى في الحقيبة. كان الجميع على أهبة الاستعداد لمغادرة البيت وبانتظار سيارة الأجرة التي ستقلهم من القاهرة إلى سفاجة ومنها يعبرون البحر الأحمر إلى جدة في طريقهم لأداء فريضة الحج في مكة. أخيراً ستتحقق رغبتها، وستذهب إلى جدة ثم إلى مكة والكعبة، وستجلس تراقب الناس من كل جنس ولون ومن كافة أنحاء العالم يطوفون حول البيت الحرام كما كانت تفعل قبل ست سنوات. ثم سترى صديقاتها القديمات والشقة التي ولدت فيها. رن جرس الباب وتوقع الجميع أن يكون سائق سيارة الأجرة، وعندما فتح الحاج حمدي الباب رأى أمامه صديقهم حسن. حسن: سمعت أنك ذاهب إلى مكة مع عائلتك لأداء فريضة الحج، جئت لأسلم عليكم. حمدي: جزاك الله خيراً وشكراً على الزيارة، وعسى الله أن يكتب لكم الحج كذلك. حسن: ولكن ألست مبكراً يا حاج حمدي؟ أمامك أكثر من ثلاثة أشهر للحج. حمدي: سنقضي رمضان أيضاً في السعودية قريبين من البيت الحرام. حسن: لا بد أنك ستتحمل نفقات كثيرة فالطيران هذه الأيام مكلف؟ حمدي: نعم أنت محق، لقد قررنا أن نذهب بالعبّارة من سفاجة إلى جدة. صاح حسن مستغرباً: - بالعبّارة يا حاج حمدي! طريقة السفر هذه محفوفة بالمخاطر، لقد غرق عمي في إحدى هذه العبّارات قبل عشرين سنة عندما أخذ نفس الرحلة، لقد حُمّلت العبارة فوق طاقتها وغرقت في وسط البحر. إن معايير السلامة مفقودة على هذه السفن. حمدي: إنها الآن أفضل بكثير مما كانت عليه قبل عشرين سنة، فالتكاليف علينا باهظة، نحن أربعة أنا وزوجتي وابنتاي. وأنت تعرف أن الأعمار والأقدار بيد الله ونحن متوكلون عليه، وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. وبعد حديث مقتضب سلّم حسن وغادر. قالت زوجة حمدي لزوجها إن هذا الحديث أقلقها كثيراً. بدورها سمعت بيان الحديث وشعرت بقلبها يغور في صدرها. في هذه الأثناء كانت البنت الصغرى هدى لا تزال في غرفتها، إذ من المفروض أن تأتي ببقية حاجياتها وحاجيات أختها. ولما استأخرها والدها أرسل إليها {بياناً} لحثها على الاستعجال. دخلت بيان غرفتها واستغربت عندما رأت هدى جالسة على السرير وقد وضعت يدها على خدها وبدت الحقيبة الصغيرة مفتوحة أمامها على الأرض والأشياء ما تزال متناثرة حولها، وقد ظهر الشحوب على وجهها فسألتها بيان: - ماذا جرى لكِ؟ استعجلي. هدى: أريد أن أخبرك سراً. بيان: سر؟ أي سر؟ وهل هذا وقت الأسرار. هدى: قررت البقاء هنا وعدم مرافقتكم. كانت تلك مفاجأة كبيرة لبيان التي لم تعهد أختها تتخذ قراراً بهذا الحجم بل وبأي حجم! بيان: أمجنونة أنت؟ أتقولين ذلك الآن؟ ستأتي السيارة بأي لحظة لتقلنا. هدى: لا أدري، ربما أنا مجنونة. بيان: احذري أن يسمعك بابا أو ماما، نحن ذاهبون لنحج بيت الله، أفاهمة هذا؟ بيت الله. أكيد دخلك الشيطان. استعيذي بالله من الشيطان الرجيم. هدى: أنا خائفة بل مرعوبة. لم تحاول بيان أن تستفسر لضيق الوقت كما أنها لم تعط الفرصة لأختها لتشرح ما في صدرها. تبلغ بيان من العمر ستة عشر عاماً، وهي ذات ذكاء وشخصية واضحين، ولا يؤخذ عليها سوى صراحتها المفرطة التي أدخلتها أحياناً في بعض المشاكل مع زميلاتها ومدرساتها. يعطيك وجهها الهادئ ونظراتها الثابتة دلالة الثقة بالنفس. هي أقرب إلى البياض منها إلى السمرة. وبالرغم من أنها ممتلئة الجسم قليلاً إلا أنها مفرطة النشاط، وهي بمثابة المثل الأعلى والقدوة والقائدة وأمينة سر أختها هدى ابنة الثلاثة عشر عاماً، فالبنتان تتشاركان كل شيء من الألعاب إلى المجلات وانتهاء بالغرفة، إلا أن هدى بخلاف أختها محدودة النشاط، إذا جلست لا تكاد تبرح مكانها، وهي تخاف من كل شيء تقريباً، وعندما تجتمع مع صديقاتها تكاد لا تنبس ببنت شفة. ولدت الصغيرتان في جدة في عمارة في حي الجامعة حيث يعمل والدهما مهندساً، وعندما بلغت بيان العاشرة قرر الوالد إرسالهما مع والدتهما إلى القاهرة لإكمال دراستهما، إذ لا تسمح ميزانيته أن يدخلهما مدرسة خاصة، وقد قرر والدهما هذا العام اصطحابهما إلى الحج لتريا كذلك المكان الذي ولدتا فيه وترعرعتا. مالت الصغيرة إلى أختها الكبيرة منذ كان عمرها أربع سنوات عندما مرضت والدتهما لفترة طويلة، وقامت بيان بالاعتناء بأختها هدى كلياً. ومنذ ذلك الوقت أصبحت بيان بمثابة الصديقة لأختها الصغرى، لا يفرق بينهما شيء، وبقيت بيان القائدة لأختها، ولو أنه قد يصدر من الأخت الصغيرة أحياناً ما يجعل {بياناً} تفقد أعصابها. مع الإصرار والإرادة القوية لبيان طأطأت هدى رأسها ورضخت لأختها، إلا أنه دار في رأس بيان أكثر من سؤال، فهي لم تعهد أختها تأتي بمفاجآت من هذا النوع، وهي التي لا تخفي عليها سراً، فلماذا قالت ما قالته؟ ولماذا قالته الآن؟ وهي التي كانت حتى الأمس طبيعية ولم تذكر شيئاً من هذا القبيل. وصلت سيارة الأجرة التي احتوت على ثلاثة صفوف من المقاعد، جلست البنتان في الخلف وجلس حمدي وزوجته في الصف الأوسط وبقي السائق في الصف الأمامي. أثناء مسـير السيارة حاولت بيان التكلم مع أختها ولكن هذه بقيت واجمة كالتمثال. وتساءلت بيان ماذا حصل لها ليجعلها تفقد صوابها، ثم تجرأت وسألتها: - هل يمكن أن تخبريني ما بك؟ نظرت هدى إليها نظرة طويلة وقالت: - أتسألينني الآن؟ كيف أستطيع أن أتكلم الآن؟ ثم أشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى. أقنعت بيان نفسها أن أختها لا بد أن ترجع إلى صوابها، وستسر لها بما في قلبها في أقرب فرصة. بعد رحلة طويلة ومتعبة استمرت حوالى ثماني ساعات، وصلت السيارة إلى سفاجة، وكان الجميع مرهقين من الجلوس الطويل واهتزاز السيارة. اقتربت سيارة الأجرة من الميناء ورأوا عبّارة ضخمة جاثمة، صرخ سائق التاكسي: - يبدو أنكم ستأخذون عجوز سفاجة. سأل حمدي: - العبارة ما اسمها؟ السائق: اسمها عروس سفاجة، ونحن نسميها عجوز سفاجة. ضحك حمدي وقال: - ومن عريسها؟ السائق: البحر هو العريس، ستراها كيف ترقص وتهتز في وسط البحر، كأنك راكب الزلاجة الكبيرة بمدينة الملاهي. نظرت بيان إلى العبّارة الجاثمة في الميناء، والتي ظهرت فعلاً كالعجوز المتصابية فقد ظهر الصدأ كثيفاً في بعض جهاتها والذي لم تستطع إخفاءه طبقة الدهان السميكة التي وُضعت فوقه. بعد أن أنزل الركاب الحقائب على جانب الرصيف، قال الحاج حمدي: - ابقينّ هنا قرب الحقائب، سأشتري التذاكر وآتيكنّ حالاً، وسأطلب أن يعطونا مكاناً جيداً لعائلة. قالت زوجته: سآتي معك، ربما لن يصدقوا أن معك عائلة، وستبقى البنتان قرب الحقائب، لا توجد مشكلة هنا والبلد آمن. بقيت بيان مع أختها هدى التي ما زالت أشبه بالمسحورة لا تجيب إلا بمنتهى الاقتضاب. نظرت بيان إلى عينيها فرأت فيهما خوفاً غير معهود، ولم تكلمها كثيراً، بل قالت باختصار: «تعالي نجلس على الحقائب». سحبت بيان مجلة من حقيبتها الصغيرة، وبدأت تتصفحها، وتقرأ العناوين هنا وهناك، وعندما اقتربت من صفحاتها الأخيرة قالت لهدى وهي لا تزال تحدق في المجلة: - أيمكن أن تخبريني ما حكايتك بالضبط؟ وعندما لم تسمع جواباً قالت: - يعني مصرّة على عدم الكلام. عندها أبعدت عينيها عن المجلة، إلا أنها صُعقت، إذ لم تكن هدى بجانبها! قفزت بيان من مكانها، فسقطت المجلة على الأرض، وأخذت تنادي هدى بأعلى صوت في كل الاتجاهات. اقترب منها أحد الباعة المتجولين وسألها: - ماذا بك يا ابنتي؟ لم تجبه بل لم تسمعه، واستمرت في صراخها. وعندما لمحت أباها وأمها من بعيد أخذت تناديهما. جرى الأبوان إليها بأقصى سرعة مرعوبين وسألاها عن هدى فقالت: - لقد اختفت هدى، كانت هنا قبل لحظات ثم اختفت فجأة. حمدي: كيف اختفت وأين يمكنها أن تذهب؟ جرى الحاج حمدي وتبعته زوجته وشعوره يتراوح بين القلق والغضب. فهو إلى حد ما مطمئن إلى أنها لن تذهب بعيداً، إلا أن شعور الأب في اختفاء ابنته لا يمكن أن يخلو من الخوف. إنه لا يفهم هذا التصرف من ابنته التي لم تقم بمثله من قبل، ثم إن الباخرة توشك أن تبحر. بدأ يسأل بعض المارة هنا وهناك، وبعد حوالى عشر دقائق من البحث، صرخت زوجته: - ها هي. كانت هدى جالسة على الرصيف، وقد أخفت رأسها بين ركبتيها. ذهبت أمها إليها، وسحبتها من ذراعها، وصرخت في وجهها سائلة إياها عن سبب تصرفها هذا. أدركها الحاج حمدي، وسحب ابنته برفق منها، وسألها عما بها، ولماذا تصرفت على هذا النحو في هذا الوقت الحرج، هدأت البنت قليلاً وقالت: - لا أعرف يا بابا، كان حلماً رهيباً ليلة أمس، حلمت بطيور غريبة سود اللون تقول لي إنني سأموت في الطريق وإنها ستأكل لحمي، وكان هناك صوت يقول دائماً: لا تغادري مصر. حمدي: إنه الشيطان يا ابنتي، لا تخافي واستعيذي بالله ولن يحدث شيء. بدأ الحاج حمدي يستعيذ بالله، ويقرأ بعض الأدعية، وبعض الآيات القرآنية، عندها شعرت هدى بالراحة والاطمئنان. قادها أبوها من يدها، وتبعته زوجته حتى وصلوا إلى حيث تقف بيان بالقرب من الحقائب، التي ما إن رأت أختها حتى جرت إليها واحتضنتها وقالت لها: - أين ذهبت يا بنت؟ كدت أموت من الخوف. لم تجب هدى، بل طأطأت رأسها ومشت. طلب الحاج حمدي أن تحتفظ البنتان بجوازيهما وأعطاهما لبيان، التي وضعتهما في حقيبة صغيرة كانت مع هدى، وطلبت منها أن تحملها بدلاً عنها، لكن هدى رفضت إعطاءها حقيبتها، وفهمت بيان ذلك فهي تعرف اعتزاز أختها بممتلكاتها.